تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثمَّ إن هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم، وذلك في أمرين:

الأول: المقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها مما يُقدَّر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدَّر.

وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها،بل لها أصل، لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع، ويصعب ضبطه، فيقدره هذا بذاك العدد، ويقدره آخر بغيره من العدد، لكنهم كلهم متفقون على وجود مقدار زائدٍ عن الحدِّ الطبيعي لنطق الحرف المفرد.

فاتفاقهم على وجود هذا القدر الزائد مسألة، واختلافهم في مقداره مسألة أخرى، لذا لا يُجعَل اختلافهم في المقدار سبيلاً إلى الإنكار، كما لا يُجعَلُ مقدارٌ من هذه المقادير المختلف فيها ملزمًا لعامة الناس ما داموا يأتون بشيءٍ منه، إذ ليس كل امرئ مسلم يستطيع بلوغ الإتقان في القراءة.

الثاني: التحريرات: والمراد بها الوجه القرائية الجائزة عند القراءِ عند جمع القراءات، أو عند قراءة سورة ووصلها بما بعدها، فإن ما يُذكر من الأوجه القرائية إنما هو على سبيل القياس للأوجه الجائزة، ولا يلزم أنَّ النبي ? قرأ بكل هذه الأوجه المذكورة، كما يقال: لك في وصل الفاتحة بالبقرة ثلاثة أوجه: قطع الجميع، ووصل الجميع، وقطع الأول ووصل الثاني يالثالث، فهذا من التحرير للأوجه الجائزة، وليس من بيان الأوجه لواردة عن النبي ?.

وقد أشار إلى هذين النوعين (التقديرات والتحريرات) الشيخ المحقق الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري في كتابه العظيم (حديث الأحرف السبعة، ط: مؤسسة الرسالة: 129 ـ 130).

خامسًا: إن مما يدعو إلى التأمل والنظر في صحة ما تُلُقِّي من هذا العلم عبر القرون = اتفاق المجودين شرقًا وغربًا بلا اختلاف بينهم، سوى في كيفيات أداء معدودة، وهي في غالبها مما يدخل في محيط الاجتهاد.

وهذا الاتفاق يشير بقوة إلى أن لهذا العلم أصلاً ثابتًا مُتلقًا جيلاً عن جيل من لدن الرسول ? حتى عصرنا هذا، ولو كان علم التجويد من المحدثات لوقع فيه مثل ما وقع في محدثات الصوفية من كثرة الطرق المتباينة، وكثرة الأوراد المتغايرة، ولما يقع مثل هذا الاختلاف عُلِم أنَّ المشكاة التي صدر عنها واحدة، وهي التي صدر عنها نقل حروف القرآن جيلاً عن جيل.

سادسًا: إن ما يُعاب به التجويد من وجود بعض المتنطعين في القراءة أو المتشددين في التلقين، أو المغالين في تأثيم الناس بعدم قراءتهم بالتجويد، فإنه لا ينجرُّ على أصل العلم، ولا يجعله علمًا حادثًا لا أصل له، وهؤلاء الأصناف موجودون في كل عصر ومِصر، وقد أشار إليهم المحققون من أعلام القراءة؛ كالداني (ت: 444)، وأبو العلاء الهمذاني (ت: 569)، وغيرهم.

وهؤلاء المتنطعون لا يقاس عليهم، ولا يحكم على العلم بهم، ولو سار سائر على بعض العلوم ـ كعلم النحو والبلاغة والأصول، وبعض مسائل الفقه، وبعض تعصبات الفقها لمذاهبهم ـ وأخذ ينقدها بقول المتنطعين فيها، لما سَلِم من العلوم إلا القليل، ولخرج بعض العلوم من أن تكون علومًا معتبرةً، وذلك ما لا يقول به طالب علم، ولا عالم قد مارس العلوم وتلقاها.

سابعًا: إذا تبين ما تقدَّم، فإنه يقال: إن تعلم التجويد من السنن التي دأب عليها المسلمون جيلاً بعد جيلٍ، ومن ترك تعلمه مع القدرة عليه، فقد أخلَّ بشيء من سنن القراءة، وكفى بذلك عيبًا.

وأما عدُّ ترك الأحكام لحنًا، فاللحن نوعان معروفان عند أهل الأداء، فإن كان مما يُخِلُّ ببنية الكلمة ويظهرها عن عربيتها، فهذا يُسمى اللحن الجلي، ومن كان يلحن لحنًا من هذا النوع فإنه لا يُعدُّ قارئًا للقرآن، ومثله ـ إن كان يستطيع التعلم وتركه ـ فإنه يأثمُ، أما إن كان لا يستطيع، فإن لا يأثم، بدلالة قوله ?:» الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران «.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير