(3) ألم تسأل نفسَك لماذا لم يَفهَمِ النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) أو أحدٌ مِن أصحابِه أو تابِعوهم مِن هذه الآية الكَريمة أنَّ المقصودَ التزامُ قولِها بعد كل تلاوةٍ للقُرآن؟!! أم أنَّك أتيتَ بِمَا لم تأتِ به الأوائِل؟!
(4) لو ألزمتَ نفسَك بأنَّ المَقصودَ بالآيةِ الكَريمَةِ التزامَ قولِ هذه الجُملَة بعد الفَراغ مِن التلاوة، فأنا ألزِمُك إلزامًا لا انفكاك له –إن شاء الله تعالى- أن تفهمَ أنَّك أثناءَ قِراءَتِك للقُرآن إذا مَررتَ بقولِه تعالى (قُل هو الله أحَد) [الإخلاص: 1] أن تَقطَعَ القِراءة وتَقول: "هو الله أحد"! وإذا مَررتَ بقولِه تعالى (قل يأ أيُّها الكافِرون) [الكافِرون: 1] أن تَقطَعَ القِراءة وتَقول: "يا أيُّها الكافِرون"، وهكذا في باقي الآيات التي استُفتِحَت بِلفظَة (قُل)، فما رأي المُخالِف؟
(5) أمَّا الآيتان الكَريمتان الأخريتان فمعناهما: "لا أحد أصدق مِن الله" [راجع: «تَفسير القُرطبي»: 2/ 1967، 2057].
الشُبهة الثانية: وقد يَستَدِل بَعضُهم بِما [رواه التِّرمذيُ والبَيهَقيُّ] عَن (عَبد الله بن بُريدَة) عَن أبيه –رَضي الله عَنه يقول: رأيتُ النَّبيَ (صلى الله عليه وسلم) يَخطُب، فجاء الحَسَنُ والحُسَين وعليهما قميصان أحمران، يَمشيان ويَعثران، فنزل رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) فحَمَلَهُما فوَضَعَهُما بَينَ يَديه، ثُمَّ قال: "صدق اللهُ (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتنةٌ) [التَّغابُن: 15]، نَظَرتُ إلى هَذَين الصَّبيين يَمشيان ويَعثران فَلَم أصبِر حتَّى قَطَعْتُ حَديثي وَرَفَعْتُهما"، ثم أخذ في خُطبَتِه. اهـ.
وشاهِد الاستدلال قولُه (صلى الله عليه سلم): "صَدَق الله ... ".
وهذا الاستدلالُ فيه نَظَرٌ:
(1) قولُه (صلى الله عليه وسلم): "صَدَق الله" قبل الآية لا بَعدَها! فهو خارِجُ مَحلِّ النِّزاع، ثُمَّ إنَّه (صلى الله عليه وسلم) اقتصر على "صَدَق الله"، والمُخالِفُ لا يَقتَصِرُ عَليها؛ وإن اقتَصَر فهي بِدْعَةٌ أيضًا؛ لِمَا يأتي في (2).
(2) عِند تأمُل سَبَب ذِكرِه (صلى الله عليه وسلم) للآية يَتَّضِحُ أنَّه لا دلالة في الحَديث على ما يَزعُمون؛ فهو (صلى الله عليه وسلم) إنَّما قال ذلك لِِبيان صِدْق خَبَرِ الله –تبارَك وتعالى- بأنَّ الأموالَ والأولادَ فِتنَةٌ، ولا أدَلَّ على ذَلِك مِن أنَّه (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا رأي الحَسَنَ والحُسَين –رَضي الله عَنهما- يَمشيان ويَعثران اشتَغَل قَلبُه بِهما ولَم يَصبِر حتى قَطَع خُطبَتَه ونَزَل مِن على مِنبَرِه وحَمَل الحَسَن والحُسَين –رَضي الله عَنهما- ووَضَعهما بَينَ يَدَيه؛ فالحَديثُ واقِعَةُ عَين لا تَنهَضُ للاستدلال على حُكمٍ عامٍّ تَعُمُّ به البَلوى، فتأمَل.
(3) قد يكونُ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) قد أخَذَ بِعُموم قَولِه تعالى (قُل صَدَقَ الله) [آل عِمران: 95] في واقِعَةٍ مَا، ولو اقتدى مُكَلَّفٌ بالنَّبي (صلى الله عليه وسلم) في أمرٍ كهذا؛ فاستعمَلَ عمومَ آيَّةٍ في مَوقِفٍ خاص؛ فلا حَرَجَ -إن شاء اللهُ تعالى.
ولقد وَقَع هذا مع النَّبي (صلى الله عليه وسلم) في آيَةٍ أخرى؛ فقد ثَبَتَ في [صَحيح مُسلِم] أنَّ النَّبي (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا أيقَظَ عَليًّا وأمَرَه وفاطمةَ –رَضي الله عَنهما- بالصلاة مِن الليل، وقال له على -رَضي الله عنه-: "إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا"، ولَّى النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَضرب فَخذَه، ويقول: (وكان الإنسان أكثر شئ جَدلا) [الكهف: 54]. فجعل (صلى الله عليه وسلم) عليًّا –رَضي الله عنه- داخِلا فيها، مع أنَّ سَبَبَ نزولها الكُفار الذين يُجادِلون في القرآن، [انظر: «تفسير القُرطبي»: (5/ 4158، طـ دار الغد العربي بمصر)، «مُذكرة في أصول الفِقه» / للعلامة (محمد الأمين الشنقيطي) –رَحِمَه الله، ص 235، طـ دار البصيرة بمصر].
الشُبهة الثالثة: وقَد يَستَدِل بَعضُهم على جوازِها بأنَّ الأكثَرين مِن المُسلمين يَلتَزِمون قولَها بعد الفَراغ مِن التلاوة!
¥