تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثانيًا: قولُك: "اتَّهَمُوا غَيرَهُم بالابتداعِ في الدِّين حَتَّى لَو كَانَ أحدٌ يَدعُو بِدُعَاءٍ مِن نَفسِه يُمَجِّدُ فيه اللهَ ويَتَضَرَّعُ إليه -لقَالَ لَه هؤلاء: يا هَذا إنَّ دُعاءَك هذا بِدْعةٌ؛ لأنَّه ليسَ دُعاءً مؤثورًا [كذا؛ والصَّوابُ: مأثورًا] عَن رَسولِ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم) " اهـ.

قُلتُ: هذه الجُملَةُ فيها عِدَّة مؤاخذات:

1 - مِن أينَ لكَ أنَّ هؤلاء القَومِ يُبَدِّعون مَن دَعَا بِدُعَاءٍ لم يُؤثَر عَن رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)؟!

2 - قولُك: "يُمَجِّدُ فيه اللهَ ويَتَضَرَّعُ إليه"؛ يَجِبُ تَقييدُ ذلك بتَمجيدِ اللهِ بِما مَجَّدَ به نَفسَه أو مَجَّدَه به رَسولُه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)، كما بَيَّنَّا في الاستكشال الأول (1).

3 - اعْلَم –أخي- أنَّ الدعاء الذي لم يؤثَر عَن رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) لا يخَلو مِن حالَتيَن: إمَّا أن يكونَ له أصلٌ شَرعي أو لا يُخالِفُ أصلا شَرعيًّا أو ليس فيه ما يُنافي الشَّرع، أو يكونَ بألفاظٍ لا يُقِرُّها الشَّرْع، كألفاظ الصُّوفية وغيرِهم مِن المُبتدِعَة (كقولِك: الله، هو هو هو، حَي، مَدَد، ... ). فالأوَلُ جائِزٌ لا حُرمَةَ فيه، وأمَّا الثاني مُحَرَّمٌ.

والدَّليلُ على جوازِ الأول النُّصوص العامَّة مِن الكِتاب والسُّنَّة التي تَحُثُّ على الدُّعاء وتُبَيِّنُ فَضلَه؛ وهاكَ بعضَها:

قال اللهُ –تَعالَى-: (وَقَالَ رَبُّكُم ادْعوني أستَجِبْ لَكُم) [غافِر: 60]، وقال –تَعالَى-: (ادْعوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وخُفيَّةً إنَّه لا يُحِبُّ المُعتَدين) [الأعراف: 55]، وقال –تَعالَى-: (وإذا سألَك عِبادي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أجيبُ دَعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ) [البقرة: 186]، وقال –تَعالَى-: (أمَّن يُجيبُ المُضطَّرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوء) [النَّمل: 62]. وقالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم): "الدُعاءُ هو العِبادَة" [صحيح: رواه أبو داود والتِّرمذي]، وقال (صَلَّىَ الله عليه وآلِه وَسَلَّم): "ادعُوا اللهَ وأنتُم مُوقِنون بالإجابَةِ واعْلَمُوا أنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ دُعاءً مِن قَلبٍ غَافِلٍ لاهٍ" [حَسَن: رواه التِّرمذيُّ، وحَسَنَه (الألبانيُّ) –رَحِمَه الله- في «صَحيح التِّرمذي»: (2766)].

فهذه النُّصُوصُ وغَيرُها تَدُل دلالةً واضِحَةً عَلَىَ الحَثِّ والتَّرغيب في الدُعاء، دون أن تُلزِّمَ المُكَلَّفَ بِدُعاءٍ مَخصُوصٍ بألفاظٍ مَعلومَة، عِلمًا بأنَّ المُكَلَّف لو دَعَا بأدعيَّةٍ عامَّةٍ مِن القُرآن والسُّنَّة، حَسبَ حَالِ الدُّعاء وُمناسَبَتِه، لَكَانَ أولَى وأفضَل؛ ومِن أقوالِ الإمام (أبي حامِد الغَزالي) –رَحِمَه الله- الرائِعَة في كِتابِه «إحياءِ عُلوم الدِّين»: "الأصلُ ألا يتجاوزَ الدعواتِ المأثورةَ [أى عَن النَّبىِّ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم)]، فإنَّه قَد يَعتَدِى في دُعائِه؛ فيسألُ ما لا تَقتَضيه مَصلَحتُه، فَمَا كُلُّ أحَدٍ يُحسِنُ الدُعَاء" اهـ.

ولا يَفوتُني أن أنَبِّه أنَّ جوازَ الدُّعاء بألفاظٍ لم تَرِد في الكِتاب والسُّنَّة مُقَيِّدٌ بِعَدَمِ التَّعَدِّي في الدُّعاء؛ لقَولِ اللهِ –تَعالَى-: (ادْعوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وخُفيَّةً إنَّه لا يُحِبُّ المُعتَدين) [الأعراف: 55]، وقَولِ رَسولِه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم): "إنَّه سَيكونُ فى هذه الأمَّةِ قَومٌ يَعتَدُون فى الطُّهور والدُعاء" [رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد، وسَنَدُه صَحِيحٌ].

وعلى هذا يُحمَلُ قَولُ الإمامِ (القُرطبي) –رَحِمَه الله- وهو يُعَدِّدُ بَعضَ مَظاهِر التَّعَدِّي في الدُّعاء: "ومنها أن يَدعو بِمَا ليسَ في الكِتاب والسُّنَّة؛ فَيَتَخَيَّرُ ألفاظًا مُفَقَّرَة وكَلِماتٍ مُسجَعَة قد وَجَدَها في كَراريس لا أصلَ لها ولا مُعوِّلَ عَليها، فيجْعلُها شِعارَه ويَترُكُ ما دَعَا به رَسولُه [صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم] " اهـ مِن «الجامِع لأحكامِ القُرآن»: (3/ 2742)؛ فهو –رَحِمَه الله- إنَّما يتَكَلَّمُ عَن الدُّعاء الذي لم يُجيزُه الشَّرعُ أصلا، فتنَبَّه!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير