تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن مذهب من يفتح شفتيه في نطق الميم الساكنة قبل الباء يثير إشكالاً صوتيّاً، لأن التأثر بين الأصوات المتجاورة يخضع لضوابط أو قوانين محددة، ونُطْقُ كلا الصوتين الميم والباء يقتضي انطباق الشفتين، والفرق بينهما أن النَّفَسَ يجري مع الميم من الأنف، ويخرج مع الباء من الشفتين، وانفراج الشفتين أو انفتاحهما قليلاً في مذهب بعض القراء يأتي بعنصر صوتي جديد لا وجود له في العملية النطقية، كما أنه قد يزيد العملية النطقية صعوبة، ومن ثَمَّ فإن ذلك يرجح مذهب من يطبق شفتيه، على نحو ما يتضح من البيان الآتي:

(أ) انفتاح الشفتين يضيف عنصراً صوتيّاً جديداً:

يخضع التغير الذي يلحق الأصوات اللغوية بسبب المجاورة في التركيب إلى ضوابط مطّردة، أو قوانين صوتية ثابتة، ومن تلك القوانين أن التأثر بين صوتين متجاورين لا يأتي بعناصر صوتية جديدة ليست في أحد ذينك الصوتين، فأي تغيير صوتي يلحق أحد الصوتين إنما يستمده من مكونات الصوت المجاور له، فتجاور صوتين أحدهما مجهور والآخر مهموس قد يؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر في إحدى هاتين الصفتين، وكذلك تجاور صوتين في أحدهما صفة الإطباق قد يؤدي إلى تأثر الصوت الآخر بها، ويمكن ملاحظة ذلك في مثل قول الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ} [البقرة:256]، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ} [الأحزاب:13]. وصفة انفراج الشفتين أو انفتاحهما التي تظهر في مذهب بعض أهل الأداء عند إخفاء الميم الساكنة عند الباء ليست من مكونات أيٍّ من الصوتين، ومن ثَمَّ فإن ذلك جاء خارجاً عن القوانين الصوتية التي تخضع لها ظاهرة التأثر بين الأصوات المتجاورة في السلسلة الكلامية.

(ب) انفتاح الشفتين يزيد النطق صعوبة:

إن تأثر الأصوات بعضها ببعض حين تتجاور في الكلام يهدف إلى تحقيق أمرين، الأول: السهولة في النطق عن طريق التقريب بين صفات الأصوات المتجاورة، والآخر: الاقتصاد في المجهود عن طريق اختصار حركات أعضاء النطق، وإذا حللنا ظاهرة التقاء الميم الساكنة بالباء في ضوء هذين الأمرين سنجد أن انفتاح الشفتين بالميم يؤدي إلى زيادة في عمل أعضاء النطق، ويأتي بعنصر صوتي جديد يتنافى مع مقصد التقريب بين الأصوات واختصار عملية النطق.

أما انطباق الشفتين في نطق الميم الساكنة والباء فإنه أقرب إلى تحقيق مقصد السهولة في النطق والاقتصاد في المجهود، فتندمج عملية انطباق الشفتين لنطق الميم بعملية انطباقهما لنطق الباء، سوى أن الناطق يرخي أقصى الحَنَكِ الليِّنِ عند نطق الميم ليجري الصوت في الخياشيم، ثم يطبقه عند نطق الباء ليتحقق النطق بالباء شديدة، ويخرج الصوت من بين الشفتين بعد انفتاحهما.

وما ذكرته من الدليل النقلي مع الدليل العقلي يرجح رواية من يطبق شفتيه عند نطق الميم المخفاة قبل الباء، لكن ذلك الانطباق أخف من انطباقهما في الباء، لأن انطباقهما في الميم القصد منه وضع عائق في طريق النَّفَس لمنع خروجه من الفم، وتحويله إلى الخياشيم، وذلك يتحقق بأدنى انطباق، أما انطباقهما في نطق الباء فإن القصد منه تحقيق صفة الشدة، وهي لا تتحقق إلا بتقوية الانطباق، وصرَّح المرعشيُّ (ت 1150 هـ) بذلك في قوله:" وبالجملة إن الميم والباء يخرجان بانطباق الشفتين، والباء أدخل وأقوى انطباقاً، كما سبق في بيان المخارج، فتلفظ بالميم في: {أنْ بُورِكَ} بغنة ظاهرة وبتقليل انطباق الشفتين جدّاً، ثم تلفظ بالباء قبل فتح الشفتين بتقوية انطباقهما، وتجعل المنطبق من الشفتين أدخل من المنطبق في الميم " (6).

وختاماً، إن ما أوردته في هذه العجالة، وما نقلته في بحثي السابق عن الموضوع، القصد منه تنبيه القراء وأهل الأداء في زماننا، ولفت نظرهم إلى هذه القضية، لمراجعتها وإعادة النظر فيها، حتى تجتمع كلمتهم، ويتوحد أداؤهم على أصح نطق وأثبت رواية. والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


الهوامش:

1 - وذلك في بحث (إخفاء الميم في النطق العربي) المنشور في كتاب: أبحاث في علم التجويد (ص 134 - 145) طبعة دار عمار، عمان 1422هـ - 2002م.

2 - شرح التيسير (ص 448) تحقيق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود وصاحبيه، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1424هـ - 2003م.

3 - الموضح في التجويد (ص175)، تحقيق غانم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1421هـ - 2000م.

4 - غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 477، تحقيق ج. برجستراسر، مكتبة الخانجي بمصر 1352هـ - 1933م.

5 - المصدر نفسه 1/ 242.

6 - جهد المقل ص 202، تحقيق د. سالم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1422هـ - 2001م.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير