لعدّه قاعدةً مطّردة، حيث إنَّ الحافظ نفسه لم يُطرِّدها في مواطن عديدة، وذكر في شأن أبي قلابة عدداً منها)).
وذكر بعد ذلك أنَّ البخاريَّ ومسلماً لم يخرجا رواية سفيان الثوريِّ، عن خالد الحذاء، فقال: ((وهذا يعني أنَّهما لم يخرجا بهذا الإسناد حديثاً قط، إلا رواية واحدةً توبع عليها خالد، فأخرجها مسلم وحده دون البخاريِّ، والذين يفقهون علم الجرح والتعديل هم وحدهم الذين يدركون ما يعنيه هذا الكلام، فيما يخص شرط البخاريِّ ومسلم في تحقق اللقاء أو الاكتفاء بالمعاصرة، وفي التطبيق العملي لقضايا الإرسال الخفي والتدليس 00 نعم، هم أخرجوا لهم بكيفيات مخصوصة، يجب أنْ تكون أمامنا عند التخريج والنقد، لا مطلقاً! وقد أشار الحافظ في " الفتح " إلى أحاديث عديدة من رواية أبي قلابة أعلَّها بالتدليس والإرسال واضطراب الحفظ)).
قلت: ثم ذكر موضعين فيهما كلام لابن حجر عن رواية أبي قلابة، وهذا هو الموضع الثاني منهما، قال: ((قال في موضع ثانٍ: ذكر المصنف – يعني: البخاري – حديث أنس في قصة العرنيين، أورده من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيِّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، مصرحاً فيه بالتحديث في جميعه فأمن فيه من التدليس والتسوية)) (6).
قلت: وقال بعد نقل هذا الكلام عن ابن حجر: ((هذه النصوص جميعها تؤكد على نقطتين اثنتين: الأولى: أنَّ التوثيق العام شيءٌ، والتطبيق العمليُّ الذي يخص كلَّ حديث شيءٌ آخر، فلا يجوز الخلط بينهما، وعلى الباحث أنْ يتفطن لهذا جيداً. والثانية: أنَّ الراوي نفسهُ ليس قالباً معدنياً، كل ما يصدر عنه من الأحاديث في مرتبة واحدة من الدقة والإتقان ... )).
وقال أخيراً: ((وبعد هذا يمكننا القول بأنَّ هذا الحديث ضعيف؛ لاشتراك ثلاثة ممن وصفوا بالإرسال والتدليس في رواية بعضهم عن بعض له، دون التصريح بالسّماع، والله تعالى أعلم)) انتهى كلامه.
قلت: قد بالغ الدكتور عداب محمود الحمش في تضعيف سند الحديث أيَّما مبالغة، وكان سبب تضعيفه للسند هو عنعنة سفيان، وخالد الحذاء، وأبي قلابة الجرمي، وثلاثتهم يمكن الرد على شبهة ضعف روايتهم بسبب تدليسهم. أما أبو قلابة فقد ذكر الذهبي في " ميزان الاعتدال " 2/ 426 (4334) أنَّه يدلس، فقال: ((ثقةٌ في نفسه، إلا أنَّه يدلس عمن لحقهم، وعمن لم يلحقهم. وكان له صحف يحدث منها ويدلس)). وقال ابن حجر في " طبقات المدلسين ": 21 (15): ((وصفه بذلك – أي بالتدليس – الذهبيُّ، والعلائيُّ)). إلا أنَّ أبا حاتم الرازيَّ قال في " الجرح والتعديل " لابنه 5/ 68 (268): ((أبو قلابة لا يعرف له تدليس)).
قلت: لم أقف على أحد وصفه بالتدليس من المتقدمين، بل على العكس فإنَّ أبا حاتم صرح بعدم معرفته التدليس عنه كما تقدم، ولم يصفه بالتدليس إلا الذهبيُّ والعلائيُّ فيما وقفت عليه من كلام العلماء، وإنَّما ذهبا إلى ذلك؛ لأنَّه كان يحدّث عن بعض من لم يلقهم بصيغة محتملة، لذا قال الذهبيُّ: ((يدلس عمن لحقهم، وعمن لم يلحقهم)).
أما أبو حاتم فإنَّه لا يصف أحداً بالتدليس، إلا إذا حدّث، عمن لقيه وسمع منه، ما لم يسمعه منه بصيغة محتملة. أما إذا حدّث الراوي بصيغة محتملة عمن لم يلقه بل عاصره فقط فهذا عنده مرسل ولا يصف ذلك تدليساً؛ لذا قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" 5/ 202 (3444) معلقاً على كلام أبي حاتم: ((وهذا مما يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة)).
إذن، فأبو قلابة على مصطلح أبي حاتم في التدليس، لم يعرف عنه التدليس، أي أنَّه لا يعرف عنه أنَّه يحدث عمن سمعه ولقيه ما لم يسمع منه، وبما أنَّ روايته هنا كانت عن أبي أسماء الرحبيِّ، وقد حدث عنه في غير هذا الحديث مصرحاً عنه بسماع (7). إذن فأبو قلابة قد لقي أبا أسماء وسمع منه، لذا هو لا يدلس عنه، إنَّما هو يرسل عمن لم يلقه ولم يسمع منه، لذا فعنعنته عن أبي أسماء الرحبي تحمل على السماع. خصوصاً وإنَّ روايته عن أبي أسماء بصيغة العنعنة في " صحيح مسلم " (8).
¥