هذا حديث ظاهره الإرسال، ولكن يعتبر مسنداً؛ وذلك لقول يعقوب القمي الذي نقله أبو داود في " سننه " عقب (1302) قال: ((سمعت
محمد بن حميد يقول: سمعت يعقوب يقول: كل شيء حدثتكم عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو مسند، عن ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله علية وسلم)).
قلت: بقي فيه يعقوب القمي، وجعفر بن أبي المغيرة وقد تقدم الكلام عليهما، كما أنَّ فيه علة أخرى وهي المعارضة، قال الحافظ ابن كثير في
" تفسيره ": 429: ((وهذا مشكلٌ فإنَّ هذه الآية مدنية، وسؤالهم أنْ يكون الصفا ذهباً كان بمكة، والله أعلم)) وقال في: 431: ((وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية والمشهور أنها مدنية)).
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 8/ 297 عقب (4569)
: ((وعلى تقدير كونه محفوظاً وصلُهُ، ففيه إشكال من جهة أنَّ السورة مدنية وقريش من أهل مكة، قلت: ويحتمل أنْ يكون سؤالهم لذلك بعد أنْ هاجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة)).
والدليل على أن هذه الآية مدنية ما رواه عطاء بن أبي رباح من حديث عائشة.
أخرجه: ابن المنذر في " التفسير " (1261)، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (542) من طريق أبي جناب الكلبي.
وأخرجه: ابن حبان (620)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبيِّ" (566) من طريق إبراهيم النَّخعي، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان.
كلاهما: (أبو جناب، وعبد الملك) عن عطاء، قال: دخلتُ أنا وعُبيدُ ابنُ عُمير على عائشة (4)، فقالت لعُبيد بن عُمير: قد آنَ لكَ أنْ تزورنا، فقال: أقولُ يا أُمَّه كما قال الأولُ: زُرْ غبًّا تزدد حُبًّا (5). قال: فقالت: دعُونا من رَطَانتكُمْ هذهِ. قال ابنُ عُمير: أخبْرينا بأعجبِ شيءٍ رأيتهِ منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتتْ ثم قالتْ: لما كانَ ليلةٌ من الليالي قال: ((يا عائشةُ، ذريني أتعبَّد الليلة لربي)). قلتُ: واللهِ إني لأحبُّ قُربَكَ، وأحبُ ما سرَّكَ. قالت: فقام فتطهرَ، ثمَّ قام يصلي. قالت: فلم يزلْ يبكي حتى بَلَّ حجرَهُ، قالت: ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بَلَّ لحيتهُ (6)، قالتْ: ثم بكى فلمْ يزلْ يبكي حتى بَلَّ الأرض، فجاء بلالٌ يؤذنُهُ بالصلاةِ، فلما رآهُ يبكي، قال: يا رسول الله، لِمَ تَبكي وقدْ غفرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ وما تأخّرَ؟ قال: ((أفلا أكون عَبداً شكوراً؛ لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ، ويلٌ لمنْ قرأها ولم يتفكر فيها: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. )) الآية كلها (7).
قال الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " عقب (4618) وفي (تحفة الأخيار) عقب (5938): ((فقال قائل: فهذا بخلاف حديث ابن
عباس ... ؛ لأنَّ في حديث ابن عباس أنَّ إنزال الله تعالى كان لهذه الآية على رسوله للسبب الذي ذكره ابنُ عباس في حديثه، وفي حديث عائشة
– رضي الله عنها – هذا إنزاله إياها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الذي كان منه من صلاته ورِقّة قلبه عندها. فكان جوابنا له في ذلك: أنْه لا اختلافَ في هذين الحديثين ولا تضادَّ؛ لأنَّ الذي في حديث ابن عباس هو ذكر سؤال قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ذكر من سؤالها إياه فيه، وتخيير الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الشيئين المذكورين في ذلك الحديث، واختياره صلى الله عليه وسلم لسائليه ما هو في العاقبة أَحمدُ، ومآلهم فيه السبب الذي يكون إيصالاً لهم إلى الجنة، وفوزاً لهم من عذابه، وكان إنزال الله عز وجل الآية التي أقام بها الحجةَ عليهم في الليلة التي أنزلها فيها
عليه، وهو في بيت عائشة، وكان ابن عباس قد تقدّم علمُهُ بالسبب الذي كان من أجله نزولها، ولم يكن ذلك تقدَّم عند عائشة، فعاد بحمد الله ونعمته جميع الآثار التي رويناها في هذا الباب إلى انتفاء التضاد لها، والاختلاف عنها، والله الموفق)).
قلت: كلام الطحاوي لا ينفي التعارض بين الحديثين فحديث ابن عباس يقتضي كون الآية مكية، في حين أنَّ حديث عائشة صريح في كون الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، كما أنَّ المشهور في كتب التفسير أن سورة آل عمران مدنية.
وانظر: "جامع المسانيد" 30/ 205 (392)، و "إتحاف المهرة " 17/ 407 (22507).
.................................................. .................
1) آل عمران: 190.
(2) قال المعلمي: ((عادة ابن معين في الرواة الذين أدركهم أنه إذا أعجبته هيئة الشيخ سمع منه جملة من أحاديثه، فإذا رأى أحاديث مستقيمة ظن أن ذلك شأنه فوثقه، وقد كانوا يتقونه ويخافونه، فقد يكون أحدهم ممن يخلط عمداً، ولكنه استقبل ابن معين بأحاديث مستقيمة ولما بعد عنه خلط، فإذا وجدنا ممن أدركه ابن معين من الرواة من وثقه ابن معين، وكذبه الأكثرون أو طعنوا فيه طعناً شديداً، فالظاهر أنه من هذا الضرب، فإنما يزيده توثيق ابن معين وهناً، لدلالته على أنه كان يتعمد)). " بلوغ الأماني من كلام المعلمي اليماني ": 180.
(3) اللفظ للطبري.
(4) في رواية أبي جناب قول عطاء: ((دخلت أنا وعبد الله بن عمر، وعبيد بن عمير، .. فقال ابن عمر .. )).
(5) هذا الكلام روي مرفوعاً، ولا يصح، وهو في كتابي الجامع في العلل.
(6) عبارة: ((ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته)) ليست موجودة عند أبي الشيخ.
(7) اللفظ لابن حبان، وهذا النص يتشرق منه أنَّ عطاءً مرة يضيف إلى نفسه عبد الله بن عمر ومرة لا يذكره، ومرة يجعل المتكلم ابن عمر ومرة يجعله عبيد بن عمير والرواية التي فيها ابن عمر هي رواية أبي جناب، وقد ضعفوه، والرواية التي فيها عبيد بن عمير رواية عبد الملك وهو أرسخ قدماً من أبي جناب.
¥