[ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد كذب، والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذب، والله يقول (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله)].
وورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق (من التابعين) [أنه التقى بأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين فقال له: ليتني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله؟ فقال: وماذا تريد أن تسأله؟ فقال: كنت سأسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: [نورٌ أنّى أراه] فهذا الأخير من كلام نبينا عليه الصلاة و السلام ومعظم من أورد هذا الحديث يقول هذا دليل على نفي الرؤية.
وأنا أقول: هل هذا دليل على نفي الرؤية أم على حصولها؟
الجواب: هذا الحديث دليل على حصول الرؤية، كيف هذا؟
يا إخوتي الكرام ... عندما أقول هذا رجل أنّى أراه، ما معنى هذا؟ معناه أنه كيفما أراه وفي أي حالة أراه فهو رجل.
وهذا هو جواب الإمام ابن خزيمة وتعليله فيقول أنّى ليست للاستبعاد وإنما لبيان أن هذا هو حال الله في جميع الأحوال.
فالمعنى هو أن الله جل وعلا كيفما أراه فهو نور، وهذا كقوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) أي كيف شئتم، وليس المعنى أنّى لا أراه ومستبعد أن أراه.
فإذن هو يدل على حصول الرؤية، يدل على هذا الرواية الثانية في صحيح مسلم [رأيت نوراً]
وقال النافون للرؤية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره لكن رأى النور الذي هو حجابه، فإن الله لا يُرى في الحياة الدنيا، وحملوا أنّى على الاستبعاد لا على هذا لعموم الأحوال.
المحاضرة السادسة عشرة:
وقد حاول أصحاب القول الثاني [الذين قالوا الرؤية قلبية ليست بصرية] أن يجمعوا بين القول الأول والثالث وأن يردوهما إلى القول الثاني فقالوا:
من أثبت الرؤية فمراده الرؤية القلبية.
ومن نفى الرؤية فمراده الرؤية البصرية.
وعليه فالأقوال الثلاثة بمعنىً واحد ولا اختلاف بينها، وهذا هو رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن حجر في فتح الباري (8/ 608) مال إلى هذا وجمع بين الأقوال الثلاثة فردها إلى قول واحد.
وهذا مع جلالة من رجحه وقال به – هو في نظري جمع ضعيف لأمرين معتبرين:
الأمر الأول: لا معارضة بين القول الأول والثاني عند أصحاب القول الأول فلا يجوز أن نرد قولهم إلى قول غيرهم.
ووجه عدم المعارضة وضحته لكم سابقاً: أن من أثبت الرؤية البصرية لا ينفي الرؤية القلبية بل يقول: إذا حصلت رؤية البصر فرؤية القلب حاصلة من باب أولى، وعليه فلا داعي للجمع بين القولين لأن أصحاب القول الأول لا يخالفونكم في قولكم.
الأمر الثاني: نقول: القول الثاني والثالث ينفيان الرؤية – أي الرؤية البصرية – وتقدمت معنا قاعدة ذهبية وهي أن المثبت مقدم على النافي.
فعندما تأتينا رواية الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده] فهذا إثبات والإثبات لا يجوز أن نتركه لأجل نفي لأن المثبت مقدم على النافي، ومَنْ حفظ حجة على من لم يحفظ.
والعلم عند الله.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول رآه ببصره ولا بقلبه ولا ننفي الرؤية، إنما نقول هذه مسألة لا يتعلق بها حكم دنيوي والنصوص متعارضة في الظاهر، فالسكوت أسلم ونفوض الأمر إلى الله جل وعلا.
إذن لما تعارضت الأدلة وكان لا يتعلق بها حكم ظاهري أو دنيوي لنجمع أو لنرجح، إذ لو كانت في حكم دنيوي لكان لابد من الترجيح أو الجمع لأجل أن نعمل ببعض النصوص، لكن بما أن الحالة ليست كذلك والمسألة من أمور الغيب فالسكوت عنها أولى.
وهذا ما ذهب إليه عدد من الأئمة منهم الإمام أبو العباس القرطبي، (ليس صاحب التفسير المشهور إنما هو صاحب كتاب المُفْهِِم في شرح صحيح مسلم) وقال: النصوص فيها متعارضة وأقاويل السلف مختلفة فمنهم من يثبت ببصره ومنهم من يثبت بقلبه ومنهم من ينفي، ولا يتعلق بهذه المسألة حكم دنيوي فالسكوت أسلم.
¥