يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
لا مفهوم للجهتين،فمن أساليبهم ذكر طرفين متقابلين والمراد ما هو أعم منهما كما يقال:"فلان يعطي الصغير والكبير "و "فلان يعطي الدينار والمئة" وقد انتبه فخر الدين الرازي-رحمه الله-إلى هذه النكتة البيانية فأظهر سرا بديعا في ذكر السدر والطلح من سورة الواقعة .. قال:
"السدر في غاية الصغر، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر، فقوله تعالى: {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر".
وكذلك هنا جاء وقوع الإشارة إلى الجهتين المتقابلتين " مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ"للدلالة على كل الجهات بعيدا عن أي حصر ..
وهذا الأسلوب أبلغ مما لو قيل:"يعلم كل شيء" لأنه يترك للمتلقي فرصة التخيل والتصور مع فهم المراد ..
فالفرق بين "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ" و"يعلم كل شيء" كالفرق بين" قُتل" و "قُطعت رأسه" مثلا .. فمعنى الموت مفهوم من التعبيرين إلا أن الثاني انفرد بقوة تصويرية لا توجد في الأول -أعني تتبع الخيال لمشهد انفصال الرأس عن الجسد وتتدحرجه بعيدا - فكان أبين وأبلغ ..
وهكذا يمضي التصور مع" مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ" إلى وجهتين:
-وجهة المكان: فتتصور الكائنات في المساحات الممتدة أمام الناس والكائنات في المساحات خلف ظهورهم.
-وجهة الزمان:ما يغيب على صعيد المستقبل وما غاب على صعيد الماضي ..
ويبقى التعبير منفتحا على كل التصورات:
1 - ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة. [مجاهد-السدي]
2 - ما مضى أمامهم من الدنيا و ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة. [ابن جريج]
3 - ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها [ابن عاشور]
4 - ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم [ابن عاشور]
5 - وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدّم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ [ابن عطية]
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
الضمير المجرور لم يتقدمه صريح -فيختص بالإحالة عليه -فنتج عن ذلك اتساع دلالي:
-احتمال أن يعود على الشفعاء"مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَع"
-احتمال أن يعود على "مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"
فعلى الأول يكون التعبير سالكا نهج الحجاج فهؤلاء الشفعاء المفترضون لا علم لهم والله عليم بهم .. وإن كان عندهم شيء من العلم فهو فضل من الله فكيف يعتمد أو يعول عليهم من دون الله!
وعلى الثاني يكون التعبير سالكا نهج البيان، فلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ملكا، ولله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ علما .. وسيأتي أن لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ حفظا .. فتم لله تعالى الإحاطة المطلقة بخلقه!!
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ
إضافة العلم إلى الضمير المجرور فاتحة لإمكان التوسع الدلالي فقد يكون التقدير "علمٌ منه" وقد يكون التقدير "علمٌ به"
وإلى ذلك أشار الإمام ابن كثير-رحمه الله-عندما قال:
وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
والاحتمال الثاني له غور منهجي ينبغي أن يعلن:
مفاده أن العلم بالله يعلو على القدرات الذاتية للعقل الإنساني فلا قياس نافع ولا اجتهاد ناجع ... وما من سبيل إلا أن يتفضل الله على عباده بما شاء فيصل إليهم على ألسنة رسله ..