وثانيهما الكوكب الدري فيمايتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية لجمال الدين الإسنوي.
وسأكتفي بإعطاء مثال واحد لأثر النحو في الخلاف الفقهي.
يقول تعالى {يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة: 6).
اتفق الفقهاء على وجوب مسح الرأس ولكنهم اختلفوا في القدر الواجب، قال الشافعية: يجزئ مسح بعض الرأس، وقال الحنابلة، لا يجزئ إلا مسح جميع الرأس.
ومنشأ الخلاف الباء في قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم} فالباء عند الشافعي للتبعيض، كأنه قال امسحوا بعض رؤوسكم، «فقال الشافعي يجزئ مسح ما يقع عليه الاسم وأقله ثلاث شعرات وحكي عنه لو مسح ثلاث شعرات - وحكي عنه لو مسح شعرة- أجزأه لوقوع الاسم عليها» (9) وعند الحنابلة الباء للإلصاق أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء، «فروي عن أحمد وجوب مسح جميع الرأس في حق كل أحد» (10).
كما اتفق الفقهاء على وجوب غسل اليدين ولكنهم اختلفوا في وجوب دخول المرفقين في الغسل، فعند الجمهور واجب، أما عند زفر من الحنفية، وداود الظاهري، وبعض المالكية فإنه لا يجب لأن معنى «إلى» في قوله {إلى المرافق} لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كعدم دخول الليل في قوله {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، أما الجمهور فيرون أن إلى كما ترد للغاية فإنها ترد بمعنى «مع» نحو قوله تعالى {ويزدكم قوة إلى قوتكم} أي مع قوتكم (11).
وهذا ينطبق على الكعبين في قوله {إلى الكعبين} إلا أن الفقهاء اختلفوا في غسل الرجلين، هل هو الواجب أم مسحهما؟ فعند الجمهور الواجب هو الغسل، وعند الإمامية الواجب هو المسح، بينما الطبري خير بين الغسل والمسح.
وسبب الخلاف أن لفظة «أرجلكم» وردت في قراءة ابن كثير وحمزة وغيرهما بكسر اللام، فعطفها من قال بوجوب المسح على رؤوسكم معمول امسحوا، وتأول قراءة النصب على محل برؤوسكم، في حين من قال بوجوب الغسل فأخذ بقراءة نافع وحفص عن عاصم وغيرهما بنصب أرجلكم، على أنها معطوفة على الوجوه والأيدي معمولين اغسلوا، وتأول قراءة الجر على مجاورة «أرجلكم» لـ «برؤسكم»، ومن قال بالتخيير جمع بين القراءتين بلا تأويل (12).
أما الترتب بين الأعضاء في الآية السابقة فقال الشافعي وأحمد بوجوبه، وقال مالك وأبوحنيفة بأنه مسنون، تمسك من أوجب الترتيب، بأن الله تعالى أمر بالغسل بعد القيام الى الصلاة بالفاء فقال {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} والفاء تفيد الترتيب والتعقيب وإذا وجب الترتيب في غسل الوجه وجب في غيره.
بالإضافة أنه أدخل ممسوحا بين مغسولات وقطع النظير عن نظيره، وكأن نظم الكلام كان يقتضي أن يقول فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤوسكم، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، ولا فائدة هنا إلا الترتيب، كما قال من نصر هذا الرأي بأن الواو تفيد الترتيب.
ومن قال بسنية الترتيب أجاب بأن الواو في اللغة للجمع مطلقا وليست للترتيب، واتفق على أن العرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، ولكن الفائدة هنا ليست وجوب الترتيب بل هي فائدة بلاغية تتمثل في اعتدال نظم الكلام في صدر الآية إذ قوله {اغسلوا وجوهكم وأيديكم} يقابل قوله {امسحوا برؤوسكم وأرجلكم} من حيث الزنة واشتمال كل منهما على فعل، ولو اختل من هذا الترتيب شيء لاختل النظم وزال كماله.
هذا قطرة من غيث الخلافات الفقهية التي كان للنحو أثر فيها، وأرى أن الأمر يستحق المزيد من الدراسة والبحث.
هوامش
1 - مقدمة في علوم اللغة: د. البدراوي زهران، الطبعة السابعة 1999م، ص 17.
2 - طبقات فحول الشعراء: لمحمد بن سلام الجمحي، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني- جدة، ج 1 ص 12.
3 - دروس في كتب النحو: د. عبده الراجحي، دار النهضة العربية - بيروت، 1975م، ص 10.
4 - الفقه الإسلامي وأدلته: د. وهبة الزحيلي، دار الفكر- بيروت، الطبعة الثانية، 1985م، ص16.
5 - الصعفة الغضبية في الرد على منكري العربية، لأبي الربيع نجم الدين سليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي، دراسة وتحقيق د. محمد بن خالد الفاضل، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1997م، ص241.
6 - انظر: علم أصول الفقه، لمحمد الخضري، دار الحديث- القاهرة، طبعة 2003، ص 359، وكذلك الجامع لأحكام وأصول الفقه المسمى حصول المأمول من علم الأصول للعلامة محمد صديق حسن خان القنوجي، تحقيق ودراسة أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، دار الفضيلة- مصر (د. ت) ص 366.
7 - الرد على النحاة، لابن مضاء القرطبي، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف- مصر، الطبعة الثانية، ص 130.
8 - انظر الرد على النحاة، ص 134.
9 - المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لأبي محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، ج1 ص 142.
10 - المغني لابن قدامة: ج 1 ص 141.
11 - انظر الصعقة الغضبية للطوفي: ص 407.
12 - انظر الصعقة الغضبية للطوفي: ص 432.
¥