[أثر النحو في اختلاف الفقهاء]
ـ[هاني إسماعيل]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:19 ص]ـ
انبثقت العلوم اللغوية كلها من مشكاة واحدة هي القرآن الكريم، تدور في فلكه تبيانا لأحكامه، وضبطا لألفاظه، واتجهت كل جماعة وجهة في تفقهه، فباتت طائفة عاكفة على تصحيح متنه في عناية فائقة وإتقان بارع في الأخذ والأداء والتلقين والتلقي، وبرع من هؤلاء في الدراسات اللغوية جم غفير بفضلهم نشأ علم العربية (1) الذي أطلق عليه فيما بعد اسم النحو العربي.
«وكان أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبوالأسود الدؤلي» (2) حرصا على القرآن الكريم من التحريف بعد أن تفشى اللحن، وصار المسلمون يلحنون في قراءة القرآن الكريم فأخطأ قارئ فقرأ {أن الله بريء من المشركين ورسوله} (التوبة-3) بجر لفظة «رسوله» بدلا من رفعها.
ولم يكن الهدف من ذلك العمل حفظ النص القرآني من اللحن فحسب، بل كان بهدف إلى غاية أبعد وأسمى تتمثل في أن يقرأوا القرآن وأن يفهموا معانيه ومقاصدة، لأنه هو الذي ينظم لهم شؤون حياتهم، و «من ثم نستطيع تفسير نشأة الحركة العقلية العربية كلها بأنها كانت نتيجة نزول القرآن الكريم، فهي كلها من نحو وصرف وبلاغة وتفسير وفقه وأصول وكلام تسعى إلى هدف واحد هو فهم النص القرآني (3).
ولما كان الفقه يسعى الى حصول «العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية» (4) ولن يتحقق له هذا إلا بفهم معاني ومقاصد النصوص الشرعية- كان اقتران النحو بالفقه قرانا لا انفصام فيه، ففي كتاب رياضة المتعلمين لأبي نعيم الحافظ «ذكر فيه مراتب أنواع العلوم وما ينبغي أن يقدم تعلمه منها، فذكر الفقه، وأورد عليه ما أورد، ثم قال: ثم يتلو الفقه من العلوم علم العربية والنحو، لأنه آلة لجميع العلوم، لا يجد أحد منه بدا، ليقيم به تلاوة كتاب الله، ورواية كلام رسول الله، لكي لا يخرجه جهل الإعراب إلى إسقاط المعاني» (5)، وجعل علماء الاصول ذلك شرطا من الشروط الأساسية لمن يخوض غمار الفقه والافتاء، فلا يتصدر فقيه أو مفت للفتيا إلا بعد اتقان النحو واللغة (6).
من ثم كان لكل من الخلافات الفقهية والنحوية أثرها البالغ ففي بعضها، حتى إننا نجد ابن مضاء القرطبي قاضي القضاة في دولة الموحدين لما أراد أن ينصر مذهبه الظاهري ويدعم ثورة الموحدين على مذاهب الفقه - خاصة الفقه المالكي- تصدى إلى النحو العربي بكتابه الرد على النحاة رغبة في هدم النحو المشرقي، وإن لم يكن يقصد هدم النحو لذاته، وإنما كان يهدف الى هدمه باعتباره وسيلة لفهم الفقه المشرقي.
ينفي ابن مضاء من النحو كل ما لا يستقيم ومذهب الظاهرية، فينفي من النحو العلل الثواني والثوالث مثلما تنفي الظاهرية العلل من الشرع الحنيف، فالفقيه في المذهب الظاهري لا يحتاج الى تعليل ما حرم بالنص، كذلك النحوي لا يحتاج الى تعليل ما ثبت بالنص، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيد» لم رفع؟ فيقال: لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر، ولا فرق بين ذلك وبين من عرف شيئا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه الى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه» (7).
ولأن المذهب الظاهري أيضا لا يعتد بالقياس في الفقه، فقد دعا ابن مضاء القرطبي إلى إلغاء القياس من النحو أيضا، وضرب لذلك مثالا بقياس إعراب الفعل المضارع على إعراب الاسم، فالاسم عند النحاة أصل والفعل المضارع فرع اكتسب إعرابه لعلتين: أولاهما كونه صالحا للدلالة على الحال والاستقبال كالفعل يقوم، فإذا قلت: سوف يقوم تخصص للاستقبال بعد أن كان شائعا.
وثانيهما دخول لام الابتداء عليه كما تدخل على الاسم كقولك: إن زيداً لقائم في الاسم وقولك: إن زيدا ليقوم في الفعل المضارع.
رفض ابن مضاء هذا القياس لإعراب الفعل المضارع، وحكم بأن الإعراب في الفعل المضارع أصل كما هو أصل في الاسم (8).
إذن ليس من العجب أن نرى خلافات في الأحكام الفقهية تخرج من عباءة المسائل النحوية، والأمثلة على ذلك عديدة، حتى إن عالمين من علماء الشريعة يفردان كتابين كاملين في تخريج المسائل الفقهية على النحو، أولهما الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للإمام الطوفي.
¥