تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد أنشأ الحجاج في البصرة لجنة خاصة من القراء، لمتابعة هذه القضية وتقطيع كل مصحف يجدوه مخالفا لمصحف عثمان، على أن يعطوا صاحبه ستين درهما تعويضاً (انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 37). على أن العديد من العلماء قد أثنوا على الحجاج فيما فعل. فيقول الإمام أبو بكر الباقلاني في نكت الانتصار (ص382) في تقويم موقفه هذا: «وقد أصاب الحجاج، وتوعد من يقرأ بما ينسب إلى عبد الله مما لم يثبت ولم تقم به حجة، فيعترض به على مصحف عثمان الذي ثبت عليه الإجماع». وبالغ الحجاج فلم يقبل حتى بقراءة ابن مسعود بغير مخالفة مصحف عثمان. لأن القرآن نزل بلغة قريش، وقراءة ابن مسعود بلغة هذيل. وقد غفل الحجاج عن أن القرآن قد نزل على سبعة ألسن، فمن هنا كان نيله من ابن مسعود وقراءته "وكان يعاقب عليها" (التمهيد لابن عبد البر8

298). وكان ذلك مما اضطر بعض أصحاب عبد الله إلى إخفاء مصاحفهم ودفنها زمن الحجاج كما فعل الحارث بن سويد التيمي. ذكره الزمخشري في تفسير سورة الفتح من الكشاف (3

540).

والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً ولا مُشكّلاً. فأمر الخليفةُ عبد الملك الحجاجَ أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاجُ رجلينَ لهذا هما: نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر و هما تلميذي أبي الأسْود الدؤلي (وكان هذا يقرأ بقراءة علي). بمعنى أن المصحف صار لأول مرة منقطاً ومشكلاً وفقاً لقراءة قريش (قراءة علي وعثمان، وهي موافقة لقراءة زيد بن ثابت الأنصاري كذلك). ولعل الواحد منا يتخيل أن هذا سيجعل قراءة قريش هي الغالبة، لكن الذي حدث أن قراء الكوفة مثل عاصم والأعمش قد نشروا قراءة هذيل نكاية بالحجاج فقط. فيذكر عاصم بن بهدلة أنه سمع الحجاج يقول: «لا أجد أحدًا يقرأ علي قراءة ابن أم عبد -يعني ابن مسعود- إلا ضربت عنقه» ... فذكر ذلك عند الأعمش. فقال: «وأنا سمعته يقول، فقلت في نفسي: "لأقرأنها على رغم أنفك"». قال ابن كثير: «وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه، والله أعلم».

وقبل أن نلوم الحجاج في تفضيله للغة قريش، فله سلف في ذلك. فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول لابن مسعود: «أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل». وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: «إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم». وكذلك قوله تعالى في القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]. مع أنه لا يخفى على عمر ولا على عثمان قضية اختلاف القراءات. فليس إنكارهما على ابن مسعود لأنهما ينكران قراءته، لكنهما يريان أن الأولى تعليم الناس قراءة قريش. قال أبو شامة: «ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس. فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين. فأما من أراد قراءته من غير العرب، فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى. وعلى هذا يُحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير. فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي r. وأما العربي المجبول على لغته، فلو كلف قراءته قريش، لعسر عليه التحول، مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته».

فلذلك عندما جمع عثمان المصاحف أرسل عبد الرحمن السلمي مع مصحف الكوفة ليعلم الناس قراءة قريش فبقي يعلم إلى وفاته في أيام الحجاج، ومعلوم أنه قد قرأ على علي بن أبي طالب، وقد أخذ منه عاصم، لكن كراهية الكوفيين السياسية للحجاج دفعتهم إلى تقديم قراءة ابن مسعود كيداً للحجاج. ومن المؤسف أن تدخل السياسية في مسألة القراءات. كما روي عن الإمام مالك أنه كان يكره القراءة بالنبر (أي بتحقيق الهمز)، لأن رسول الله r لم تكن لغته الهمز، أي لم يكن يظهر الهمز في الكلمات المهموزة مثل: مومن، ياجوج وماجوج، الذيب. وهكذا كانت لغة عامة الحجازيين بما فيهم الأنصار. ففي "المصباح المنير": «و [الرأس]: مهموز في أكثر لغاتهم، إلاَّ بني تميم، فإنَّهم يتركون الهمز لزوماً». جاء في "المدونة": «باب: الصلاة خلف أهل الصلاح وأهل البدع وإمامة الرجل في داره وإمامة من لا يحسن القرآن: ... وسئل مالك عمن صلى خلف رجل يقرأ بقراءة ابن مسعود؟ قال: يخرج ويدعه ولا يأتم به». فهذا الإمام مالك كذلك وافق الحجاج في اختياره.

وأكثر ما يتحسر عليه المرء هو ضياع النسخ الأولى من المصحف المُشكّل، التي يُعتقد أنها موضوعة على قراءة قريش، قراءة علي وعثمان رضي الله عنهم. ولا أعلم في حد علمي أحداً من الباحثين بحث في هذه المخطوطات القديمة، والله أعلم.

المصدر: http://www.ibnamin.com/recitations_current_places.htm

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير