ولقد شدد ابن المنير - فى الانتصاف - النكير على الزمخشرى فقال: إن المنكر على ابن عامر إنما أنكر عليه ما ثبت أنه براء منه قطعاً وضرورة؛ لأن هذه القراءة مما علم ضرورة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها، ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين، أعنى علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين، وإنه على هذا العذر لفى عهدة خطرة، وزلة منكرة. [15]
وقال أبو حيان فى رده عليه: وأعجب لعجمى ضعيف فى النحو يرد على عربى صريح محض قراءة متواترة، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً. [16]
ومع ذلك فإذا نزلنا مع الزمخشرى ومن تابعه فى رد هذه القراءة، إذا نزلنا معهم إلى القياس النحوى، فإننا نرى أن القراءة ماضية مع القواعد النحوية، فلقد قال الكوفيون: يجوز الفصل بين المتضايفين فى النثر وفى الشعر إذا كان المضاف مصدراً، والمضاف إليه فاعله، والفاصل بينهما مفعوله كقراءة ابن عامر التى نحن بصددها، ومنه قول القائل:
عتوا إذ أجبناهم إلى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل
فسوق، مصدر مضاف، والأجادل مضاف إليه، من إضافة المصدر إلى فاعله، والبغاث مفعوله، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه، والأصل سوق الأجادل البغاث. [17]
ولست أهدف من ذلك تصحيح القراءة بقواعد العربية، بل هدفى الرد على بعض المخالفين، ودعوتهم إلى تصحيح ما استقروا عليه من أوجه الإعراب المخالفة لاستعمال القرآن الكريم، وتصحيحها لتمضى مع قواعد القرآن الكريم.
المثال الثالث
قال تعالى: ((وكذلك نُجِّى المؤمنين)) [18]
وهذه قراءة ابن عامر ببناء الفعل "نجى" للمجهول مع تضعيف الجيم وكسرها وتسكين الياء ثم نصب "المؤمنين" [19]
وقد خطأ هذه القراءة أبو حاتم والزجاج وقالا: فيها لحن ظاهر حيث نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نُجِّى المؤمنون وكُرم الصالحون. [20]
ودافع عن القراءة من النحاة الفراء وأبو عبيد وثعلب وقالوا: نائب الفاعل هو المصدر المحذوف والتقدير: وكذلك نجى النجاء المؤمنين، كما تقول ضُرب زيدا بمعنى ضُرب الضربُ زيداً. ومنه قول القائل:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
أى لسب السب بذلك الجرو الكلابا.
وفى الإتحاف: أن الأصل ننجى حذفت إحدى النونين استثقالاً لتوالى المثلين. [21]
وقد اعترض على هذه القراءة أيضاً بأن الفعل "نجى" وهو ماض جاء ساكن الآخر والأصل أن يأتى مفتوحاً.
وأجيب عن ذلك بأن تسكين ياء الماضى جاء على لغة من يقول: بقى ورضى دون تحريك الياء استثقالاً لتحريك ياء قبلها كسرة، ومنه قول القائل:
خمر الشيب لمتى تخميرا ... وحدا بى إلى القبور البعيرا
ليت شعرى إذا القيامة قامت ... ودُعِى بالحساب أين المصيرا
حيث سكنت ياء دُعى استثقالاً لتحريكها وقبلها كسرة.
المثال الرابع:
قال تعالى: ((لِيُجزى قوماً بما كانوا يكسبون)) [22]
ببناء الفعل (يُجزى) للمفعول ونصب (قوماً) وهذه قراءة أبى جعفر وهو من الثلاثة تتمة العشرة، وقد مضى بنا قول الزرقانى فى التحقيق: إن العشر متواترات.
وقد عاب بعضهم هذه القراءة وقالوا: هى لحن ظاهر [23] ووجهتهم أن نائب الفاعل فيها جاء منصوباً وحقه الرفع. وهؤلاء ظنوا أن (قوماً) هو نائب الفاعل، والواقع أنه محذوف وفى تقديره وجهان:
الأول: ليجزى الخير والشر قوما، ورجحه العكبرى [24] والبيضاوى [25]
الثانى: أن يكون القائم مقام الفاعل هو المصدر، والتقدير: ليجزى الجزاء قوما.
والجزاء هنا هو ما يجزى به، وهو فى الأصل مفعول ثان ليجزى، قال زاده: المفعول الثانى للأفعال التى تتعدى إلى اثنين يجوز إقامته مقام الفاعل فنقول: أعطى درهمُ زيداً، وجزى تتعدى إلى اثنين تقول جزيت فلاناً الخير، فإذا بنيته للمفعول أقمت أيها شئت مقام الفاعل. [26]
وحاصل الرد على من يخطئون قراءة (نجى المؤمنين) وقراءة (ليجزى قوما) أن القراءتين متواترتان، فلا يصح القدح فيها، ولئن ادعى البصريون - إلا الأخفش - أنهما تخالفان قاعدة نحوية تقول بتعيين إقامة المفعول مقام الفاعل إذا وجد بعد الفعل المبنى لما لم يُسمَّ فاعله، أو تقديمه على سواه من مصدر أو ظرف أو جار ومجرور، فإننا نقول لهم:
¥