ج- هذه الروايات تخالف المتواتر عن عثمان -رضى الله عنه - فى نسخ المصاحف، وجمع القرآن من الدقة والتحرى ونهاية التثبت، بل يردها ما أخرجه أبو عبيد نفسه عن عبدالله بن هانئ البربرى مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلنى بكتف شاه إلى أبى بن كعب فيها (لم يتسن) وفيها (لا تبديل للخلق) وفيها (فأمهل الكافرين) قال: فدعا بالدواء فمحى أحد اللامين فكتب (لخلق الله) [37] ومحا فأمهل وكتب (فمهّل) [38] وكتب (لم يتسنه) [39] ألحق فيها الهاء. [40]
كيف يتفق ما جاء فى الرواية التى نقدناها، مع هذه الرواية الثانية التى تصف عثمان - رضى الله عنه - بالدقة فى مراجعة ما كان يكتبه النساخ وتصحيح ما كانوا يخطئون فيه وأنه لم يترك هذه الأخطاء لتقيمها العرب كما تقول الرواية الواهية.
د - وعلى فرض صحة هذه الآثار، فكلمة "لحن" فيها لا يقصد بها المعنى المعروف للحن وهو الخروج على قواعد النحو، وإنما يعنى بها كما يقول العلماء: القراءة واللغة والوجه، كما ورد عن عمر قوله: أبى اقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه - أى قراءته. [41]
ويذكر السيوطى أن قول عثمان - إن صح - فإنما ينصرف إلى كلمات كتبت على هيئة مخصوصة، ورسم معين يخالف النطق مثل (لا اذبحنه) فى سورة النمل (آية:21)، ومثل (بأييد) فى سورة الذاريات (آية:47) فإنها كتبت بياءين.
يقول السيوطى: فلو قرئ ذلك بظاهر الخط لكان لحناً. [42] فهذا معنى قول عثمان - رضى الله عنه - إن به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، فهو أشبه بالتنبيه إلى ضرورة أن يؤخذ القرآن الكريم عن طريق التلقين والمشافهة، بواسطة شيخ، وألا يكون الاعتماد فقط على كتابة المصحف، فإنه كتب على هيئة مخصوصة تخالف النطق فى أكثر الأحيان.
ثانياً: ما يتعلق بالآيات التى وردت فى الروايات وتوجيهها
الآية الأولى:
قال تعالى: ((إنّ هذان لساحران)) بتشديد نون "إنّ" وهى قراءة أهل المدينة والكوفة، وهى قراءة سبعية متواترة عن الأئمة. [43]
وقال الطبرى: هى قراءة عامة الأمصار [44]
قال بعض النحاة فى - جراءة -: هذه القراءة خالفت القاعدة فى نصب "إن" ولا شك أن هذا من اللحن.
الرد عليهم:
يرد على القائلين بذلك بأن القراءة متواترة فلا يجوز ردها ولا تضعيفها بوجه من وجوه النحو لها فى غيره محمل، فمن المقرر أن من ضوابط قبول القراءة موافقة اللغة العربية ولو بوجه، ولا يشترط الموافقة من جميع الوجوه. وقد سبق تقرير ذلك.
وفيما يتعلق بهذه القراءة التى معنا وجهت بما يلى:
1 - قيل: إنها وافقت لغة بنى الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد، فإن الألف عندهم تلزم المثنى رفعاً، ونصباً وجراً، فيقولون: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان.
وجاء فى الشعر:
وأن أباها وأبا أباها ... قد بلغا فى المجد غايتاها
وعلى القاعدة المعروفة: أبا أبيها، وغايتيها.
وجاء أيضاً:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساقا لناباه الشجاع لصمما [45]
وهذا الوجه من أقوى الوجوه التى تحمل عليها القراءة.
2 - وقيل: إن "إن" حرف جواب بمعنى نعم، وعليه فما بعدها مبتدأ وخبر. [46]
وقد جاء فى الشعر العربى ما يفيد مجيئها بمعنى نعم. ومنه قول القائل:
بكر العواذل فى الصبو ... ح يلمننى وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
أى: قلت: نعم.
وقد تناقل المفسرون وجوهاً أخرى يمكن أن تحمل عليها هذه القراءة غير أنهم فى النهاية، رجحوا حملها على الوجه الأول الذى سلف ذكره.
الآية الثانية:
قال تعالى: ((والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة)) وهو جزء آية من سورة النساء وهى قوله تعالى: ((لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً)) [47]
والشاهد فى هذه الآية قوله: (والمقيمين الصلاة) حيث جاء منصوباً بين مرفوعين هما قوله (والمؤمنون) وقوله (والمؤتون الزكاة)
هكذا اعترض على هذه الآية فادعى أن فيها لحناً وخطأً نحوياً، وإلا لتلقف المشركون هذا الخطأ لأنهم عرب خلص، وهم يومئذٍ يتربصون بالقرآن بغية أن يجدوا فيه مغمزاً أو مطعناً، ولكن ذلك لم يحدث فدل على أنه لا لحن فيه.
هذا وقد وجّه النصب فى (المقيمين الصلاة) بما يلى:
¥