قصدي باختيار الراوي أنه يختار من الأوجه التي أقرأه بها شيخه، فقالون مثلا قرأ على نافع ختمات كثيرة بأوجه عديدة اختار بعضها فأقرأ به تلاميذه لأنها كلها كاف شاف، ومن الجائز أن يكون ترك بعضها فلم يقرأ به، أو أن يكون أقرأ به تلاميذ ممن لم تصلنا طرقهم.
وحتى يتضح الأمر أسألك هذين السؤالين:
هل القارئ أقرأ تلميذه بوجه واحد فقط أم أقرأه بعدة أوجه؟ وإذا أقرأه بعدة أوجه فهل الراوي ملزم أن يقرئ تلاميذه بها كلها أم الراوي مخير في أن يقرئ تلاميذه بما شاء منها؟
لو قلت أقرأه بوجه واحد فبماذا تفسر أن أبا عمرو أقرأ تلميذه اليزيدي، ثم قرأ على اليزيدي نفسه كلٌ من الدوري والسوسي، وبين الدوري والسوسي خلافات كثيرة جدا.
وكذلك قرأ سليم على حمزة ثم قرأ خلف وخلاد على سليم وبين خلف وخلاد خلافات كثيرة.
إذن جواب السؤال: يتعين أن يكون القارئ كحمزة وأبي عمرو وبقية القراء العشرة كان يقرئ التلميذ الواحد كاليزيدي أو سليم بأوجه عديدة (وسواء أكان تلميذ القارئ هو الراوي أو هو الواسطة بينه وبين الراوي)
ثم نأتي إلى السؤال الثاني لو كان الراوي ملزما أن يقرئ تلاميذه بها كلها فمعنى هذا أن سليما أقرأ كلا من خلف وخلاد بجميع الأوجه التي تحملها من حمزة، واليزيدي أقرأ كلا من الدوري والسوسي بجميع الأوجه التي تحملها من أبي عمرو، إذن اقتصار الدوري على بعض الأوجه والسوسي على بعضها معناه أنه كان لهما مجال في الاختيار، أما لو كان اليزيدي مخيرا أن يقرئ تلاميذه بما شاء من الأوجه التي تحملها من أبي عمرو، فمعناه أن حفصا كذلك كان مخيرا أن يقرأ بما شاء من الأوجه التي تحملها من عاصم، وهكذا في كل راو، وهو المطلوب إثباته.
أما قول الإمام الشاطبي:
وَمَا لِقِيَاسٍ فِي الْقِرَاءة مَدْخَلٌ ... فَدُونَكَ مَا فِيهِ الرِّضاَ مُتَكَفِّلاَ
فهذا لا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع الاختيارات لسببين:
1) لأن الاختيار هو اختيار من بين ما سمعه من شيخه فحسب، وليس معنى الاختيار أن يقيس بعقله ويخترع قراءات لم يقرئه بها شيوخه.
2) لأن البيت ليس خاصا بالراوي، وإنما المعني به في المقام الأول القراء السبعة أنهم لم يقرؤوا بمقتضى أقيسة عقلية وإنما يختارون من بين ما قرؤوه على شيوخهم بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينطبق على القراء ينطبق على الرواة فهم لا يقرؤون بمقتضى أقيسة عقلية وإنما يختار الراوي من بين الأوجه التي أقرأه بها شيخه.
فقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يختار بعقله وجها جائزا في اللغة العربية ويقرأ به بدون أن يكون قد تلقاه بالسند المتصل الصحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخي الكريم الشيخ راجي رحمة ربه _ حفظك الله _:
من البدهي ومن المعلوم بالضرورة أنه لا يمكن أن يكون قصدي أو قصدك أن القارئ أو الراوي يختار بعقله شيئا يقرأ به دون أن يكون تحمله بالسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإقحام هذه المسألة هنا من عدم تحرير محل النزاع، وزيادة في التأكيد على أني لم أقصد من قريب أو بعيد ما توهمته _ غفر الله لك _ أنقل لك كلام الإمام ابن الجزري حيث قال رحمه الله: و بقي قسم مردود أيضا و هو ما وافق العربية و الرسم و لم ينقل البتة فهذا رده أحق و منعه أشد ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر، و قد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقري النحوي و كان بعد الثلاثمائه، قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه البيان و قد: نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل من صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة و غيرها فابتدع بدعة ضل بها عن قصد السبيل، قلت: و قد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد حضره الفقهاء و القراء و أجمعوا على منعه و أوقف للضرب فتاب و رجع و كتب عليه بذلك محضر كما ذكره الحافظ أبوبكر الخطيب في تاريخ بغداد و أشرنا إليه في الطبقات و من ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق و هو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه و لا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه كما روينا عن عمر بن الخطاب و زيد بن ثابت رضي الله عنهما من الصحابة و عن ابن المنكدر و عروة بن الزبير و عمر بن عبد العزيز و عامر الشعبي من التابعين أنهم قالوا: القراءة سنة متبعة
¥