ولا يكاد الدارس يجد نصاً آخر في الموضوع، في ما اطلعت عليه، حتى عصر محمد المرعشي الملقب ساچقلي زاده، والمتوفى سنة 1150 هـ = 1737 م، الذي قال: (جهد المقل ص293): " والمأخوذ به في ديارنا [مرعش مدينة في جنوب تركيا الآن] قراءة عاصم برواية حفص عنه ".
وأحسب أن تتبع المصاحف المخطوطة، وتحديد القراءات التي ضُبطت بها، والتاريخ الذي كتبت فيه، يمكن أن يرسم خارطة لانتشار القراءات القرآنية زماناً ومكاناً، لأن نَسْخَ المصاحف على قراءة معينة يعني وجود من يقرأ بها في الحقبة التي كتبت فيها، والمكان الذي نسخت فيه، لكن ذلك عمل كبير يحتاج إلى تضافر جهود الباحثين من مختلف البلدان لمراجعة آلاف النسخ من المصاحف المخطوطة المكتوبة في عصور مختلفة، وقد لا يكون تحقيق ذلك ممكناً الآن أو في وقت قريب، لكنه مفتاح نضعه في يد من يبحث عن العصر الذي انتشرت فيه قراءة عاصم من رواية حفص.
(2) أسباب انتشار رواية حفص عن عاصم
إن تاريخ القراءات القرآنية يشير إلى ازدياد اختيارات القراء في عصر التابعين وتابعيهم، حتى بلغ عدد القراء المشهورين العشرات، وجعل ذلك ابن مجاهد يختار سبع قراءات ضمَّنها في كتابه (السبعة)، وأدرج ما عداها في كتابه الآخر (شواذ السبعة)، وتلقت الأمة اختياره بالقبول، وصارت القراءات السبع التي اختارها ابن مجاهد هي الصحيحة المشهورة، وأُلحقت بها بعد ابن مجاهد القراءات الثلاث المتممة لها عشراً.
واستمرت رواية القراءات العشر حتى عصرنا الحاضر على يد العلماء المتخصصين بالقراءة، لكن تعليم جمهور الناس القرآن يقتضي التركيز على قراءة واحدة من تلك القراءات، ويبدو أن قراءة عاصم هي التي اعتمدها المعلمون في العراق منذ عصور متقدمة، ثم امتدت شهرتها في بلدان المشرق الإسلامي حتى صارت أشهر القراءات، وطُبعت عليها المصاحف دون غيرها.
وكانت هذه القراءة قد حظيت بتقدير خاص منذ وقت مبكر، فنجد الإمام أحمد (ت 241 هـ) يسأله ابنه صالح: أي القراءة أحب إليك؟ فقال قراءة نافع، قال: فإن لم توجد؟ قال: قراءة عاصم [ينظر: علم الدين السخاوي: جمال القراء 2/ 464].
وقال مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ): " فقراءته مختارة عند مَن رأيت مِن الشيوخ، مقدمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها " [التبصرة ص 219 – طبعة الهند]، ويبدو أن ذلك كان مقدمة لانتشارها بعد ذلك.
ويمكن أن نشير إلى بعض العوامل التي أرجح أنها أسهمت في انتشار رواية حفص عن عاصم أكثر من انتشار رواية شعبة والقراءات القرآنية الأخرى:
(1) تفرغ حفص لتعليم قراءة شيخه وتنقله بين الأمصار:
من المعروف أن أبا بكر شعبة بن عياش كان لا يُمَكِّنُ من نفسه من أراد أخذ قراءة عاصم منه (ينظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة - ط 1 - ص71) بينما كان حفص بن سليمان متفرغاً لتعليمها، متنقلاً بين الأمصار لنشرها، فلم يلبث أن غادر الكوفة إلى بغداد بعد اتخاذها عاصمة للخلافة، فأقرأ فيها، وجاور بمكة فأقرأ فيها أيضاً (ينظر ابن الجزري: غاية النهاية1/ 254)، وكثر تلامذته وانتشرت قراءة عاصم عن طريقه، وكان من القراء من اشتهر برواية حفص دون غيرها، مثل أحمد بن سهل الأشناني البغدادي (ت 307 هـ) الذي أخذ القراءة عن عُبيد بن الصبَّاح تلميذ حفص (ينظر: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 4/ 185).
(2) اطراد أصول رواية حفص عن عاصم:
ويمكن أن نذكر سبباً آخر لانتشار رواية حفص عن عاصم، وهو اطراد أصول القراءة فيها، من الهمز والإمالة والإدغام والترقيق والتفخيم، مما يسهِّل على الدارس تعلمها، وهذا أمر يجعلها متميزة عن رواية شعبة وغيرها من القراءات الأخرى، التي يشق على المتعلم ضبط ما فيها من صور تسهيل الهمزة وإمالة الألفات وإدغام المتقاربين.
وينبغي أن يلحظ الدارس لهذا الموضوع تطابق ظواهر النطق بين رواية حفص عن عاصم والنطق الفصيح للعربية، وقد يكون ذلك عاملاً آخر مكَّن لها في مجال التعليم أيضاً، وقربها من نفوس المتعلمين.
(3) الطباعة:
وقد يكون للطباعة شأن في التمكين لرواية حفص، فأقدم مصحف طبع في مدينة هامبورك بألمانيا سنة 1694 م (=1106هـ تقريباً) كان مضبوطاً برواية حفص عن عاصم (ينظر: كتاب رسم المصحف - طبعة دار عمار - ص 508).
واشتهر من خطاطي الدولة العثمانية الحافظ عثمان (ت1110هـ) الذي كتب بخطه خمسة وعشرين مصحفاً (ينظر: محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي ص 339) واشتهرت المصاحف التي خطها الحافظ عثمان في العالم الإسلامي شهرة واسعة " وقد طُبِعَ مصحفه مئات الطبعات في مختلف الأقطار الإسلامية، وانتشر في العالم الإسلامي، وفاق الطبعات السابقة واللاحقة " (وليد الأعظمي: تراجم خطاطي بغداد ص 131)، وهذا قبل ظهور مصحف الأزهر ومصحف المدينة طبعاً.
وطباعة المصاحف برواية حفص عن عاصم كانت تعكس واقع الحال في بلدان المشرق الإسلامي، فلولا انتشار هذه القراءة في هذه البلدان لما أقبل الناشرون على طبع المصاحف بهذه الرواية، لكن الطباعة في الوقت نفسه أسهمت في التمكين لها، وساعدت على دخولها في بقاع جديدة من أرض الإسلام.
وأحسب أن الموضوع يتطلب بحثاً مستمراً لاقتناص الشواهد من المصادر والمصاحف المخطوطة، حتى يمكن في النهاية رسم خارطة لانتشار القراءات القرآنية تستند إلى الوثائق التاريخية وليس إلى الاجتهادات الشخصية، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
غانم قدوري الحمد
¥