وقال بعضهم: أخذنا عن أهل الأداء بيان الميم الساكنة عند الفاء والواو والباء في حُسْن من غير إفحاش. وقال بعضهم: أجمع القراء على تبيين الميم الساكنة في جميع القرءان إذا لقيت باءً. والأوّل هو القول.
فأمّا عبارة بعضهم عن ذلك بالبيان فالذي عندي أنّهم لم يريدوا البيان الذي هو التفكيك والقطع، لأنّ ذلك إذا لُفظَ به جاء في الغاية من الثقل والاستبشاع، وإنّما أرادوا بالبيان عدم الإدغام لأنّ جماعة من أغمار القراء ذهبوا إلى أنّه إدغام فسمّوه بياناً ليُنبّهوا على أنّه ليس بإدغام، وإن كان إخفاءً " انتهى كلامه رحمه الله تعالى (الموضح ص172، 173،174).
تأمل جيدا تجد كلام القرطبي كله دليل على أن الخلاف حقيقي فمن ذلك قوله: وهو مذهب ابن مجاهد.
أليس حكاية ذلك القول بالإخفاء على أنه مذهب لإمام مجتهد كابن مجاهد دليل على حقيقة الخلاف , إذا لو كانت الحقيقة واحدة ما صارت مذهبا لأحد بل تكون مذهبا للكل والخلاف في العبارة فقط؟
وقوله: والأوّل هو القول.
أليس هذا تصويبا للأول (الإخفاء) وتخطئة للثاني (الإظهار) فلو كانت الحقيقة واحدة فلم التصويب والتخطئة؟
قال ابن الباذش: "من ذلك الميم عند الباء: نحو {كذبتم به}، و {آمنتم به}، {ومن يعتصم بالله}، و {أن بورك}، و {هنيئاً بما}، و {صمّ بكم} ونحوه كثير.
فاختلفت عبارات القراء بعد إجماعهم، إلاّ من شذّ وسنذكره على أنّ الإدغام لا يجوز" (الإقناع ص64).
قد قدمت أنت أنه انتقد الإخفاء فلو كانت حقيقته حقيقة الإظهار فما العيب في الاصطلاح إذا قال به أئمة عدول وهو لا يغير حقيقة الحكم؟ أليس من المسلمات أنه لا مشاحاة في الاصطلاح؟ فلم كل هذه المشاحات قديما وحديثا إذا كان الأمر مجرد خلاف في اللفظ دون الحقيقة؟
ألم يصرّح هؤلاء الثلاثة بأنّ الخلاف هو العبارة؟
اترك الجواب لك بعد تأمل ما سبق فأنت ترى ابن الجزري والداني والقرطبي يصححون الإخفاء ويأخذون به ويخطئون الإظهار , وفي المقابل ترى ابن الباذش ومكي وغيرهما يصححون الإظهار ويأخذون به ويخطئون الإخفاء , فهل تجيب نفسك بإنصاف؟
هذه النصوص تردّ على قولك
هذه النصوص فيها ثلاثة أقوال: الإخفاء و الإظهار والإدغام , فإذا كان الخلاف لفظيا كما تقول فهو لفظي فيها جميعا وإذا كان الخلاف حقيقيا فهو حقيقي فيها جميعا , فماذا تقول؟
أمّا الإجماع فقد قال به أئمّة في هذا الفنّ والمشكلة ليست في الاعتبار بالإجماع أم لا وإنّما الستاؤل كيف يقول بعض أهل الأداء بالإجماع مع تواتر الوجهين في الأداء؟ ألا يدلّ هذا على الاتفاق في الأداء دون اللفظ؟ هذه تساؤلات أضعها بين يديك. ويؤيّد ذلك ما تؤكّده النصوص المنقولة لك أعلاه.
يا أخي وأين غاب عن بالك الإجماع على ترك كثير من القراءات المتواترة التي تدخل في حديث الأحرف السبعة ألم تقرأ قول ابن الجزري:وقول من قال: إن القراءات المتواترة لا حد لها إن أراد في زماننا فغير صحيح لأنه لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشرة، وإن أراد في الصدر الأول فيحتمل إن شاءالله. (المنجد صـ 16، 17، 18).
أمّا استعمال السخاوي للفظ مختلفان أي مختلفان في العبارة والاختلاف في العبارة يُفضي إلى الاجتهاد وإعمال الرأي لذا قال رأيان. أمّا إن كان الخلاف في الأداء فلا دخل للرأي فالكلّ متّبع لما قرأه على شيخه. مثاله: الكلّ يدغم النون في الميم ولكنّهم اختلفوا هو الغنّة غنّة النون أم غنّة الميم، فاختلفوا في اللفظ واتّفقوا في الأداء، والاختلاف في اللفظ يترتّب عنه الاجتهاد وأعمالٌ للرأي خلافاً ما إذا كان الأمر متعلّقا بتطبيق الحكم في الأداء.
هذا المثال الذي مثلت به هو مثال صحيح للخلاف اللفظي الذي لا يغير حقيقة الحكم وهو يؤكد أن الخلاف في الميم مع الباء ليس لفظيا بل حقيقي لأن الفرق واضح بين المثالين فمثال النون مع الميم لم يثر أي نقاش ولا ترتب عليه خطأ ولا صواب ولا نسب أحد القولين لإمام على أنه مذهب له خلافا لأئمة آخرين بل إن أئمتنا قد أغفلوه ولم يتعرضوا له قديما لأنه فعلا لفظي لا يغير من حقيقة الحكم شيئا , بخلاف مسألتنا ففيها كل ما ليس في الأولى من النقاش بل والجدال والتصويب والتخطئة والرمي بالبدعة والفرية والتبديل والإكراه , فهل يستويان.
أخي محمد ألا تلحظ معي أن في كلامك مايثير العجب فكلما نقلت شيئا تظنه لك انقلب عليك فسبحان الله العظيم.
إذا لم تقنع بهذا فبإمكاننا أن نجري تجربة تثبت لك الفرق بين المسألتين ولنجعلها استراحة فكأني بك قد تعبت من تكرار ما تكرره , فبإمكانك أن تجعل هذا الخلاف في النون مع الميم موضوعا مستقلا في هذا الملتقى الكريم ثم انظر فلن تجد من يخالفك أو يناقشك فضلا عن أن يخطئك لأن الخلاف لفظي بخلاف مسألتنا التي فيها ما لا يخفى عليك فجرب لتقتنع وإن لم تفعل فسأفعل أنا لو أردت أنت أن أفعله.
أمّا قولكم:
المعاصرون أقروا بأن الخلاف حقيقي حتى شيوخ المطبقين , فالشيخ أيمن سويد أقر بذلك ,ولك أن تسأله وتتأكد منه , فلما ناقشه شيخنا أحمد حامد حول هذه النقطة قال: لو كنت في زمانهم لسميته إظهارا ولما سميته إخفاء , فاقبل ما أقر به شيخك وشيخ المطبقين حفظك الله وحفظه , وإلا أحوجتني إلى أن أنقل لك المزيد والمزيد من أقوال الأئمة التي تؤكد بلا ريب أن الخلاف حقيقي وأن الإخفاء لا يكون إلا بالفرجة ولا بد.
هذا صحيح ولكن ليس لأحد أن يمنعني من البحث في القضيّة إذ كلّ مسألة تخضع للبحث إن تبيّن الخلاف المسألة سواء كان في العبارة أم في الأداء. وقد تعرّض لهذه المسألة بعض المشايخ على رأسهم شيخنا العلامة غانم قدوري الحمد في كتابه الدراسات الصوتية والذي أكّد أنّ الخلاف في اللفظ دون الأداء.
هذا إنصاف منك يحمد لك وشجاعة أدبية هي الظن بك ويوشك إن شاء الله أن تقتنع بالحق في هذه المسألة فما زال عندي الكثير يا صاحبي فأطل نفسك معي.
¥