فإذا كان الأمر كذلك، فلم لا نسلِّم لهذا، ونقول: كل علمٍ أهله أدرى به؟
خامسًا: الذي ألاحظه على من لم يعتبر علم التجويد لا يخلو من حالين:
الأولى: أن لا يكون له به معرفة أصلاً، ولم يكن من علوم بلده، كما هو الحال في بلاد نجدٍ، بخلاف الحال في الحجاز الذي لا يزال فيه علم التجويد قائمًا يدرَّس في الحرمين الشريفين منذ عقود متطاولة.
الثاني: أن يكون له ملحوظة على من يتشدَّدون في هذا العلم، أو من يقرئون الناس ويتكلفون في تعليم التجويد، فينصبُّ كلامه على مثل هؤلاء، وقد ينجرُّ حديثه من حيث لا يشعر إلى أصل هذا العلم الذي تلقته الأجيال، وهو مرتبط بقراءة كتاب ربها،و مثل هذا لا يكون كلامه حجة على إطلاقه.
*************
قولك: (والتكلف فيه كثير جداً، ولهذا لايصح مقارنة التجويد بالنحو - في نظري - كما قرر الدكتور الفاضل مساعد في قوله: (ومن زعم أنه لا يجب الأخذ بالتجويد، وان العربي في هذا العصر يجوز له القراءة على سليقته العربية، فإنه يشبه من سيزعم أنه لا يلزم الناس تعلم النحو، وأنهم عرب، فيجوز لهم أن يتكلموا بسليقتهم) لأمور:
الأول: أن النطق العربي السليم للحروف لم يفسد كما فسد إعراب الناس، ولو قلت للمتعلم انطق حرف الباء والهاء والميم لنطقها كلمة (بهم) عربية سوية ليس في نطقها إخلال)
أخي الكريم:
لا يُسلَّم لك أن الناس اليوم ينطقون نطقًا عربيًّا صحيحًا، وأنت على خُبْرٍ بتغاير لهجات الناس، وتباين منطقهم، فكيف يقال هذا؟
وما مثَّلْتَ به من الأحرف لا يقع فيه خطأ، لكن يقع الخطأ في نطق الكاف والقاف والجيم والعين واللم والراء والتاء وغيرها، كما يقع الخطأ في الأحرف المشدَّدة، ويقع في غيرها، ومن أقرأ عرف أن النطق العربي ليس سليمًا عند كثيرين ممن تأثرت ألسنتهم بلهجاتهم.
ولو كان النطق العربي هو المعوَّل عليه، فكيف تخرِّج قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة: (اقرءوا القرآن على أربعة، وذكر منهم ابن مسعود)، وقوله (من احب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد)، ألا ترى أن السليقة العربية لو كانت كافية لما كان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم من معنى، حاشاه من ذلك.
إنَّ مثل هذه الأحاديث تدعوك من قريب إلا أنَّ الأداء يُتلقَّى حتى في جيل العرب الأقحاح الذين نزل عليهم القرآن.
************
قولك: (الثاني: أن الناس تتفاوت في المخارج ولا يعاب عليهم التفاوت بخلاف إبدال الحروف ولهذا ورد في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال اقرؤوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) والحديث صححه الألباني (1\ 220).
قلت: وترى الناس الآن يتفاوتون في نطق الحرف ولا يعاب عليهم في قرائتهم، انظر مثلاً إلى تفاوت الثبيتي وعلي جابر في نطق الجيم، بإشباعها للأول وعكسه للآخر، كما يتفاوتون في الصفير ولا يعاب عليهم
انظر إلى قراءة الشريم مثلاً للسين والصاد وعكسها للسديس وغير ذلك من التفاوت الذي لا يضير القاريء ولا يقلب الحرف إلى الآخر)
أقول: من الذي له حقُّ أن يعيب، الناس أم العارفون بالقراءة؟
وهل سألت أهل القراءة فذكروا لك صحة قراءة من ذكرت، حتى تقول إنه لا يعاب عليهم؟
فالجيم التي ينطق بها الثبيتي ـ مثلاً ـ جيمٌ عربية معروفة، وهي موجودة في بعض قبائل العرب إلى اليوم من قبائل الطائف والجنوب، وهي قريبة مما ينطق به بعض أهل الشام، وهذه الجيم لا تقلب مبنى الحرف، بخلاف ما لو قرأها بلهجة أهل اليمن (قِيم)، وهذه أيضًا عربية مذكورة في كتب اللهجات، لكن هل تجيز القراءة بها بناءً على رأيك؟
وأما استدلالك بالحديث فإن له وجهًا يُخرَّج على الحديث الآخر (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق فله أجران ... )، فالأعجمي، وكذا العربي الذي لا يستطيع تحسين تلاوته لا يؤاخذ بهذا، ولا يعاب عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فيكون ممن شقَّ عليه القرآن.
************
¥