وبعد هذا البيان، أقول: (إن المصدر الوحيد للقراءات إنما هو الوحي النازل مِن السماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي بلّغه بكل دقة وبكل حركة إلى أصحابه الكرام، فكان يقرئهم إياه كما أنزل كما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فإذا ما علمهم القرآن، فأتقنوا تلاوته، أحبّ أن يسمعه منهم توثيقاً لما سمعوه عنه.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرأ عليّ القرآن " قلت: " يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: " إني أحب أن أسمعه من غيري "، فقرأت عليه سورة النساء ... حتى إذا جئت إلى هذه الآية: ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ? (النساء:41) قال: " حسبك الآن " فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. [البخاري رقم 5050 ومسلم رقم 800، ط: بيت الأفكار الدولية].
إذن فالأمر في تعدد القراءات أمر أخذٍ ونقل من الوحي فلا يجوز لمسلم أن يعزو أيّة قراءة لغير ذلك ... ) [باختصار من كتاب البيان في علوم القرآن إعداد: د: سليمان القرعاوي و د: محمد بن علي الحسين ص151 – 152 وقد جاء في هذا الكتاب ما يستحق الرجوع إليه].
وبقي أن أشير في هذا البحث المختصر إلى أن هناك من خالف هذا الأصل الكبير فادّعى وزعم أن مرجع القراءات ليس هو السماع بل الاجتهاد، وشكك في مصدر القراءات، وأتى بشبه لا ثبات لها أمام برهان الحق الوضح المبين.
ولن أذكر أقوال هؤلاء ومزاعمهم في هذه المسألة العظيمة الشأن الجليلة القدر لأمور:
الأمر الأول: أن الذين يُنسب إليهم القول المخالف لما قررناه في هذا البحث هم – في الغالب – من غير المتخصصين في علم القراءات، وقديماً قالوا: مَن خاض في غير فنّه أتى بالعجائب.
الأمر الثاني: أنه قد أُلفت في الرد عليهم مؤلفات وتصدى للرد على مزاعمهم وإبطال شبهاتهم علماء كثيرون، ومنهم الإمام العلاّمة محمد بن محمد بن محمد بن الجزري – رحمه الله – وخاصة في كتابه: منجد المقرئين. وغيره كثير من المتقدمين والمتأخرين.
الأمر الثالث: أن هذا يحتاج إلى بحث كامل مفصل، وليس هذا مجالاً لذلك.
[ line]
خاتمة البحث
لعله تبين لنا مِن خلال ما سبق من آيات وأحاديث ونقولات عن أهل العلم أن الحق الذي لا يُمارى فيه: أن القراءات سنة متبعة نقلت بالرواية والمشافهة من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهي قرآن لا تنفك عنه، وهي ليست مغايرة له – بل هي ألفاظ متفاوتة نزل بها الروح الأمين من رب العالمين، ليس للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لجبريل عليه السلام فيها إلا التبليغ والأداء.
ولم تكن القراءات وليدة خط أو رسم أو عدم شكل وضبط لكتاب الله تعالى، ومَن يقول هذا فهو ضال أو جاهل. وكثير ممّن خالف هذا الأصل العظيم وأدّعى أن مصدر القراءات ليس هو السماع المتلقّي من الوحي – وإنما هو من اجتهاد القراء – هم من الذين لهم مقاصد خبيثة ونوايا سيئة، يريدون الوصول من خلال ما أدّعوه إلى أهداف معروفة لمن نوّر الله بصيرته وأعظمها التشكيك في مصداقية أعظم كتاب عند المسلمين وأصدقه وهو القرآن الكريم.
ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ولن يستطيعوه بإذن الله تعالى لان الله قد تكفّل بحفظ كتابه فقال: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? (الحجر:9).
قال أبو بكر بن مجاهد في كتاب جامع القراءات: (ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يُرّخصون لأحدٍ في إن يقرأ بحرفٍ لم يقرأ به أحدٌ من الأئمة الماضين، وإن كان جائزاً في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه، لئلا يجسر على القول في القرآن أهلُ الزيغ، وينسبون مَن فعله إلى البدعةِ والخروج عن الجماعة ومفارقة أهل القبلة، ومخالفة الأمة) اهـ. [نقلاً عن كتاب: التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان للعلامة طاهر الجزائري ص120.]
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: (وما وجد فيه مِن القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد، ليس نعددها عن تخريف أو تبديل، ولا لبس في معانيها، ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضها ويبين معناه ...
ومِن ذلك يتبيّن أن: تعدد القراءات كان يوحي من الله لحكمة لا عن تحريف وتبديل، وأنّه لا يترتب عليه أمور شائنة، ولا تناقض أو اضطراب بل معانيها مؤتلفة ومقاصدها متفقة) [الفتوى رقم 1977 نقلاً عن كتاب: من فتاوى الأئمة الأعلام حول القرآن ص191– 193.]
وختاماً أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعل ما قلت وما ذكرت في هذا البحث صواباً ولوجهه الكريم خالصاً وأن ينفع به من كتبه وقرأه – إنه سميع مجيب -.
حرر ليلة الجمعة 28/ 5/1425هـ. الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
¥