سابعاً: كلّ ما ذكرناه يدلّ أنّ القدامى كانوا لا يأخذون بالقياس إلاّ ضرورة عند عدم النص وغموض وجه الأداء فكانوا يحتاطون لذلك أشدّ الاحتياط لأجل ذلك وضعوا حدوداً لا يحوز تعدّيها لأيّ سبب بخلاف ما نشاهده اليوم من الخلاف في المسائل التي منشؤها ومنبعها اجتهاد وقياس محض وتزداد الخطورة أنّها تقدّم على النصوص والمشافهة المسندة.
ثامناً: مسائل القياس الواردة ِ عند القدامى قليلةٌ جداً كما قال ابن الجزري رحمه الله " ... ونحو ذلك مما لا يخالف نصاً ولا يردّ إجماعاً ولا أصلاً مع أنّه قليلٌ جداً كما ستراه مبيّناً بعدُ إن شاء الله تعالى ... " وقول مكّي القيسي رحمه الله " وقسمٌ لم أقرأ به ولا وجدتّه في الكتب لكن قسته على ما قرأت به إذ لا يمكن فيه إلاّ ذلك عند عدم الرواية في النقل والنصّ وهو الأقل ....... ".انتهى كلامه رحمه الله النشر 1/ 18. أقول إن كانت المسائل القياسية قليلة ومحدودة عند القدامى فلا يجوز اليوم أن نأخذ بالقياس إلاّ الذي أُخذَ به عند القدامى وتلقّاه الناس بالقبول في ذلك الوقت أقول في ذلك الوقت أمّا الآن فلا يمكن أن نأخذ بالقياس لأنّنا نقرأ الآن بمضمون الشاطبية والدرة والطيّبة وكلّ المسائل الاجتهادية والقياسية ذُكرت وحدّدت فلا داعي للقياس الآن. فلذلك اعترض الشيخ الضباع على البناء في مسألة الإدغام كما سبق.
سوال: كيف نتعامل مع المصادر الثلاثة: التلقّي والنصوص والقياس؟
أوّلاً: عند تعارض التلقّي مع القياس فلا شكّ أنّ التلقّي هو المقدّم لأنّه هو المصدر الأوّل لهذا العلم فكيف يقدّم القياس عليه. وهذا أمرٌ جليّ لا يحتاج إلى تفصيل.
ثانياً: عند تعارض النصّ مع القياس فلا شكّ أنّ النصّ هو المقدّم حيث أنّ القياس لايصار إليه إلاّ عند عدم النصّ وغموض وجه الأداء كما ذكر ابن الجزري رحمه الله تعالى وقد ذكرنا أنّ النصوص تفيد القطع واليقين بخلاف القياس فإنّه اجتهادٌ محض يحتمل الخطأ والصواب لا سيما فيما اختُلف فيه ويستثنى من ذلك القياس الذي انعقد على أساسٍ إجماعٍ فهذا يستحيل أن يخالف نصاً أووجهاً من أوجه الأداء الذي تلقّاه الناس بالقبول.
ثالثاً: عند تعارض النصّ والتلقّي من المشايخ: فهذا أمرٌ صعب يحتاج إلى تفصيل. فالأصل أنّ النصّ لا يخالف التلقّي لأنّ مصدر النصوص هو التلقّي ذاته فكان الأوائل يدونون في كتبهم ما تلقّوه عن مشايخهم. فلمّا كانت النصوص لا تتغيّر على مرّ الزمان فلا شكّ أنّ التلقّي هو الذي يعتريه شيء من التغيير مع مرّ الزمان والدليل على ذلك ما نراه اليوم من الخلاف في بعض المسائل الأدائية مع أنّ الأسانيد إن لم تلتقي بأحد المشايخ فإنّها تلتقي حتماً بابن الجزري رحمه الله تعالى فكيف نشأ الخلاف مع أنّ المصدر واحد؟
الجواب على هذا السؤال يكون من عدّة جوانب أهمّها:
الجانب الأوّل هو نقصان العلم وأهله عبر مرور القرون حيث أنّ القرن الأوّل أفضل من الثاني وهو أفضل من الثالث وهكذا فقد ذكر مكي القيسي في الرعاية مثلاً أنّ حرف الضاد قلّ من يتقته من أهل الأداء وهذا الكلام قاله في بداية القرن الخامس والأمثلة كثيرة فما بالك اليوم.
الجانب الثاني: الاجتهاد في بعض المسائل التي تخالف التلقّي عن المشايخ والنصوص مع أنّ القياس لا يصار إليه إلاّ عند عدم النصّ وغموض وجه الأداء كما ذكرنا.
الجانب الثالث: تقليد العلماء من غير تدقيق في المسائل فإذا انفرد العالم بشيء وكان من المحققين الجهابدة في وقته فإنّك تجد أنّ الوجه الذي انفرد به يُستفاض بين الناس ولو كان مخالفاً للنصوص صراحة، وبعد سنوات يصير ذلك الوجه من المتلقّى بالسند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فالعلماء الذين انفردوا بهذه الفتاوى هم مأجورون لأنّهم بلغوا مرتبة الاجتهاد والعالم لا يخلوا من التقصير كما هو معلوم فكلّ يؤخذ من قوله ويردّ إلاّ سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام.
ونريد أن نذكّر أنّ علم التجويد هو علمٌ مبنيّ على النصوص وهذا ما يسمّى بعلم الدراية أمّا التلقّي من المشايخ فيسمّى بعلم الرواية ومن كان له حظ من الرواية دون الدراية فلا شكّ أنّه سيقع في الخطأ والغلط بخلاف من كان جامعاً بين الرواية والدراية فالأمر يختلف تماماً. قال مكيّ القيسي في الرعاية " القرآء يتفاضلون في العلم بالتجويد:
¥