أما كون هذه القصة تورث ضعفًا فيمن قيلت فيه فلا أسلم بهذا. فليس كل النقاد وقعوا في ذات الوهم الذي وقع فيه البخاري في (الضعفاء الصغير) ([3]) فلم يتبعه في ذلك إلا أبو حاتم الرازي ([4]) وبعض المتأخرين عن هذه الطبقة .. وليسوا في عداد النقاد الكبار.
مع العلم أن البخاري لم يجر عليه الوهم في كل كتبه، بل هو يعي تمامًا التفريق بين المنقري البصري، والأسدي الكوفي.
فقد فرق بينهما في (الأوسط) ([5]) فقال: قال يحيى مات عطاء بن أبي ميمونة بعد الطاعون، وكان يرى القدر، وحفص بن سليمان قبل الطاعون بقليل.
وقال: في موضع آخر ([6]): حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي، وهو حفص بن أبى داود، هو القارىء عن عاصم وعلقمة بن مرثد سكتوا عنه ... قال وأما حفص بن سليمان المنقري البصري، ثقة، قديم الموت.
وفي التاريخ الكبير (2/ 363) ترجم لهما فقال:
2764 ـ حفص بن سليمان البصري المنقري عن الحسن روى عنه حماد بن زيد والتميمي يقال مولى بني منقر قال يحيى مات قبل الطاعون بقليل ومات عطاء بن أبي ميمونة بعد الطاعون. ...
2767 ـ حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر القارئ عن علقمة بن مرثد وعاصم تركوه، وهو حفص بن أبي داود الكوفي. اهـ.
فلم نره ذكر رواية النسخ في (الأوسط) ولا في (التاريخ الكبير) ولا في (الضعفاء الكبير) .. وهذا يعني أن الوهم أشكل من حيث عدم التصريح بنسب خفص فأشكل.
أما كون هذه القصة أورثت ضعفًا في حفص القارئ فهو مردود من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه العبارة محتملة فلا تعني الجرح، وذلك أن مجرد أخذ كتب الناس ونسخها لا يعني روايتها، فربما نسخها للفائدة، أو نسخها ليتحملها بعد ذلك بصورة العرض على الشيوخ، فهذا لا يضر إذا كان الأصل المنقول عنه معارض بأصل الشيخ.
فكيف إذا كان صاحب الكتاب مثل شعبة أو القطان، لا شك أن المحدثين يرغبون في النسخ من كتب المتقنين، وليس هذا من قبيل الجرح فاعلم؛ لأنها جرت عادة بعضهم أن ينتسخ مسموعاته من حفاظ أقرانه.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: ((لما أتيت محمد بن عائذ وكان رجلاً جافيًا ومعي جماعة فرفع صوته، فقال: من أين أنتم قلنا من بلدان مختلفة من خراسان من الري من كذا وكذا قال أنتم أمثل من أهل العراق، قال ما تريدون؟ ورفع صوته، قلنا شيئا من حديث يحيى بن حمزة، فلم أزل أرفق به وأداريه حتى حدثني بما معي ثم قال خذ الكتاب فانظر فيه فأعطانى كتابه فنظرت فيه وكتبت منه أحاديث ثم قال خذ الكتاب فاذهب به معك قال أبو زرعة فدعوت له وشكرته على ما فعل قلت انا أجل كتابك عن حمله وأنا أصيب نسخة هذا عند أصحابنا فذهبت وأخذت من بعض أصحاب الحديث فنسخته على الوجه)) ([7]).
والأمثلة على ذلك كثيرة .. وإنما تحفظوا في كتب (بفتح الكاف وإسكان الفوقية) الحديث خاصة من غير أصول متقنة أو من غير مقابلة، وأشد من ذلك نسخها على سبيل الرواية منها دون تحمل، فإن هذا عين الكذب!.
قال هشام بن يوسف ـ في مطرف بن مازن ـ: ((استعار كتبي على أن ينتسخها ويسمعها مني فنسخها ورواها عن شيوخي ابن جريج وغيره، انظروا في كتبه فإنها توافق كتبي)) ([8]). اهـ. ولهذا كذبه ابن معين قال العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن مطرف بن مازن؟ فقال: كذاب ([9]).
و قال يحيى بن معين: قال لي هشام بن يوسف: جاءني مطرف بن مازن فقال لي: أعطني حديث بن جريج ومعمر حتى أسمعه منك؟ فأعطيته فكتبها ثم جعل يحدث بها عن معمر نفسه وعن ابن جريج، فقال لي هشام: انظر في حديثه فهو مثل حديثي سواء، فأمرت رجلا فجاءني بأحاديث مطرف بن مازن فعارضت بها فإذا هى مثلها سواء، فعلمت انه كذاب ([10]).
ونستفيد من هذه القصة أن ابن معين لا يمكن أن يسلم في مثل القصة المنسوبة لحفص بن سليمان القارئ من دون بحث وتمحيص .. كما ظن الدكتور غانم.
أما بقية العلوم غير الحديث فلا حرج في نسخها والإفادة منها ([11]).
فالانتساخ مشهور لديهم، فالذي أرجحه في هذه المسألة أنها من قبيل الإخبار وليست بجرح .. وإن أخطأ بعض المؤرخين بعد ذلك فحملها على الذم، ثم فسرها بعضهم على قصد الرواية فاستحالت جرحًا، فهذا لا نقره.
أما سبب عدم إعادة الكتاب إلى شعبة فربما نسيه أو فقده، وشعبة من المتعنتين في الجرح يغمز بأدنى ملابسة فكن على ذُكر من هذا، فلو كان لا يرى جواز نسخ الأصول والفروع المتقنة لما أعاره.
الوجه الثاني: إذا كان ذلك كذلك فشعبة لم يرد بهذه العبارة جرح المنقري، فلو أراد بها جرحه لكان ضعيفًا عنده .. كيف وقد عدله وقدمه في الحسن، فقال: ((كان حفص أعلمهم بقول الحسن)) ([12]).
وإنما عددنا هذا من قبيل التعديل المطلق؛ لأن حفصًا هذا إنما عرف بالحسن فهو مقدم فيه على غيره وقبله النقاد كما سيأتي في وقفة لا حقة.
وما يلفت هنا أن أحدًا من النقاد لم يشر لقصة نسخه للكتب سوى ابن سعد في (الطبقات) ([13]). وعبدالله بن أحمد في (العلل) ([14]) .. وهذا يؤيد ما أكدناه سابقًا أنهم لم يعدوها من قبيل الجرح، إلا لما ذكرت في ترجمة حفص القارئ لقيام القرينة على كونها جرحًا.
---الحواشي ----
([1]) الطبقات (7/ 256).
([2]) العلل (3: 77/ برقم 4257)
([3]) الضعفاء برقم (73).
([4]) الجرح والتعديل (3/ 173).
([5]) التاريخ الأوسط (2/ 24).
([6]) التاريخ الأوسط (2/ 184).
([7]) الجرح (1/ 343).
([8]) انظر مختصر الإرشاد (1/ 280).
([9]) الجرح (8/ 314).
([10]) تاريخ الدوري (3: 177/ برقم 787).
([11]) كتب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني ـ وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه ـ بشعر قال فيه:
قل لمن تر= عين من رآه مثله
ومن كأن من رآه = قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله = أن يمنعوه أهله
لعله يبذله= لأهله لعله
فبعث إليه الكتب من وقته. اهـ. انظر وفيات الأعيان (4/ 184 ـ 185)، وانظر طبقات الفقهاء للشيرازي (ص142).
([12]) طبقات ابن سعد (7/ 267).
([13]) الطبقات (7/ 256).
([14]) العلل (2/ 503/برقم3320)، (3/ 77/ برقم4257).
¥