ثانيهما ـ معرفة ضبط الرواة .. ومنهج ابن معين في معرفة ذلك فريد في بابه، وهو الحجة في ذلك عند الأئمة جميعًا. وقد عرف عنه تخصصه في هذا الشأن وتركيزه على دراسة مرويات أي راو قبل الكلام فيه، فلم يكن من عادته الكلام في الرواة لأدنى ملابسة، وقد كان ينصح قبل أن يفضح.
قال يحيى بن معين: أخطأ عفان في نيف وعشرين حديثا، ما أعلمت بها أحدًا وأعلمته فيما بيني وبينه، ولقد طلب إلي خلف بن سالم، فقال: قل لي: أي شيء هي؟ فما قلت له، وكان يحب أن يجد عليه ([1]).
وقال يحيى: ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك مني وإلا تركته ([2]).
فلا يتكلم ابن معين في أحد ممن خبره ولقيه إلا بعد أن يعذر إليه، ومن لم يلقه فإنه يتثبت في أمره ويدرس حديثه ويسأل تلاميذه وأصحابه فإذا تبين له أمره عندها يتركه ويتكلم فيه.
وفي (سؤالات الآجري): قلت لأبي داود: أيما أعلم بالرجال علي أو يحيى؟ قال: يحيى عالم بالرجال، وليس عند علي من خبر أهل الشام شيء ([3]).
وقال حنبل عن أحمد: كان بن معين أعلمنا بالرجال ([4]).
أما معرفته بضبط الرواة وتفردهم ومناكيرهم .. فهو عجب من العجب!.
قال عباس الدوري عن بن معين: لو لم نكتب الشيء من ثلاثين وجها ما عقلناه ([5]).
فهو مشهور بالتنقير في مرويات الرواة وسماع الأحاديث من عدة طرق عن شيخ واحد.
ومن ثم عرضها على مرويات الأصحاب والأقران، وله قصة مشهورة في هذا الشأن يرويها محمد بن إبراهيم الملطي قال: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له: ما سمعتها من أحمد؟ قال: نعم حدثني سبعة عشر نفسًا عن حماد بن سلمة، فقال: والله لا حدثتك، فقال: إنما هو درهم ([6])، وانحدر من البصرة واسمع من التبوذكي، فقال: شأنك، فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب من أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفسًا وأنت الثامن عشر. فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه ([7]). اهـ.
فهذا هو منهج ابن معين في الكشف عن أوهام وأخطاء الرواة في المكثرين فما بالك بالمقلين .. فهذا أيسر عليه بلاشك، وحفص بن سليمان ليس من المكثرين، ومعرفة خطأه وتفرده أمر يسير جدًا يمكن الوصول إليه بيسر وسهولة؛ لقلة مروياته، وابن معين قد أدرك من حياته ما يقارب العشرين سنة فإنه ولد سنة (158هـ)، مات حفص سنة (180هـ)، وأدرك جميع تلاميذه، فلا يقال والحال هذه أنه لم يعرفه.
ثم إن له ما يشبه القاعدة في الرواة الذين لم يخبرهم أشار لها ابن عدي بقوله: قول يحيى بن معين [في الراوي] لا أعرفه، كأن يحيى إذا لم يكن له علم ومعرفة بأخباره ورواياته يقول: (لا أعرفه) ([8]).
ولذلك أمثلة ذكرها أستاذنا أحمد نورسيف في دراسته لابن معين ([9]).
فلو كان ليس له معرفة بحفص لم يجرؤ أن يقول فيه هذا الكلام الشديد الذي لا يكون إلا عن معرفة وتبصر. وأسوق هنا مثالاً يدل على تؤدته وعدم تعجله في شأن الرواة الذين يترك حديثهم أو يكذبهم.
قال أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدورقي: كنا نختلف إلى إبراهيم بن نصر بن أبى الليث سنة ست عشرة ومئتين، أنا وأبى أحمد ويحيى بن معين ومحمد بن نوح وأحمد بن حنبل في غير مجلس، نسمع منه تفسير الأشجعي، فكان يقرأه علينا من صحيفة كبيرة، فأول من فطن له ـ أي أنه كذاب ـ أبي فقال له: يا أبا إسحاق هذه الصحيفة كأنها أصل الأشجعي؟ قال: نعم كانت له نسختان فوهب لي نسخة، فسكت أبي، فلما خرجنا من عنده قال لي: أي بنى ذهب عناؤنا إلى هذا الشيخ باطلا؛ الأشجعي كان رجلاً فقيرًا وكان يُوصل وقد رأيناه وسمعنا منه، من أين كان يمكنه أن يكون له نسختان، فلا تقل شيئًا واسكت، فلم يزل أمره مستورًا حتى حدث بحديث أبي الزبير، عن جابر في الرؤية، وأقبل يتبع كل حديث فيه رؤية يدعيه، فأنكر عليه ذلك يحيى بن معين لكثرة حديثه ما ادعى (وتوقى أن يقول فيه شيئًا).
¥