وله كتاب في علل الحديث ومسائل أحمد بن حنبل تدل على علمه ومعرفته ([2]).
تبعت في ذلك المزي (رحمه الله) ([3]) ثم استبان لي بعد تأمل وتحرير للنقول أنه أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز البغدادي، وهذا له روايتان عن ابن معين في شأن حفص القارئ:
الأولى منهما: سمعت يحيى بن معين يقول ـ وذكر أبا عمر البزاز كوفي ـ فقال: كان أبو عمر هذا كذاب ([4]).
والثانية: سمعت يحيى يقول: قال لي أيوب بن المتوكل ـ وكان من القراء البصراء ـ قال: قراءة أبي عمر البزاز أثبت من قراءة أبي بكر بن عياش، وأبو بكر أصدق منه. قال يحيى: وأبو عمر هذا كذاب ([5]).
فالذي انقدح في ذهني أن ابن معين قد يستخدم إطلاق الكذب عند التفرد بما لا يُحتمل من الراوي .. وأقرب مثال يحضرني على هذا ما رواه الحاكم قال: سمعت أبا علي الحافظ، سمعت أحمد بن يحيى التستري، يقول: لما حدث أبو الأزهر بهذا (يعني حديث عن ابن عباس قال نظر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى علي، فقال: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ... ) في الفضائل أخبر يحيى بن معين بذلك، فبينا هو عنده في جماعة أصحاب الحديث إذ قال: من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدث بهذا عن عبد الرزاق؟ فقام: أبو الأزهر، فقال: هو ذا أنا، فتبسم يحيى بن معين، وقال: أما إنك لست بكذاب، وتعجب من سلامته، وقال: الذنب لغيرك فيه ([6]).
وحفص قد أكثر من غرائب الروايات، وليس من الثقة بمحل من تقبل أفراده ولذا تكلموا فيه.
ومن جانب آخر ينبغي أن نعلم أن إطلاق الكذب ليس بالضرورة الاتهام بالوضع، لأن المرء قد يجري الكذب على لسانه من غير قصد أو تعمد.
كما صح عن يحيى القطان أنه قال: ((لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث)).
وفي رواية: ((لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث)).
وقد فسرها الإمام مسلم تفسيرًا حسنًا فقال: (يقول يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب) ([7]). اهـ.
ومن هذا الضرب عبدالله بن المحرر الجزري، قال ابن حبان: كان من خيار عباد الله ممن يكذب ولا يعلم، ويقلب الأخبارولا يفهم ([8]). وربما كان الكذب في حديث الناس لا في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). كما يُفسر به تكذيب أبي داود ([9]) لابنه عبدالله الحافظ الشهير ([10]) ولم يضره ذلك .. قال ابن عدي: هو مقبول عند أهل الحديث، وأما كلام أبيه فيه فما أدري أيش تبين له منه ([11]).
وربما أطلق الكذب والمراد به الخطأ كما في لغة أهل الحجاز، كما في تكذيب النبي (صلى الله عليه وسلم) لسعد بن عبادة ([12]). وكما في تكذيب عبادة بن الصامت لأبي محمد أحد الصحابة (رضي الله عنهم) ([13]). وكما في تكذيب سعيد بن جبير ([14])، وعطاء بن أبي رباح ([15])، وسعيد بن المسيب ([16]) لعكرمة، وكما في تكذيب الشعبي للحارث الأعور ([17]). قال ابن حبان في (الثقات) ([18]): ((أهل الحجاز يسمون الخطأ كذبًا)).
وربما أطلق الكذب على الراوي لروايته الكذب ولو لم يكن هو الذي اختلقه وصنعه .. كما في الحديث الشريف: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". وهو حديث صحيح مشهور ([19]).
فإما أن يكون وصف ابن معين لحفص من هذا الباب، أو يكون بالاعتبار الذي ذكرته أولاً، فترد هذه العبارة وتفسر وفق ألفاظه الأخرى .. كما سنبينه في وقفة تالية.
وأنا أتفق مع الأستاذ (وفقه الله) أن الذي يقرأ عبارات ابن معين في ضوء رواية ابن محرز، فسيتهمه خاصةً أن الرواية مختصه بالقراءة ولم تذكر فيها رواية الحديث، ولذا خشي أن يتجه بعض الجهلة أو المغرضين للتشكيك في القرآن بسبب هذا الطعن، خاصةً وأن قراءة عاصم يقرأ بها في معظم بلدان العالم الإسلامي.
وهذا ما دعاه (حفظه الله) إلى محاولة توجيه كلام ابن معين وتضعيفه بتفسيره بأنه قراءة غير دقيقة لقول أيوب بن المتوكل.
لكن ينبغي أن يكون التوجيه والتفسير على طريقة المحدثين، وبطريقة علمية مقبولة .. وهذا ما أحسب أنا سنصل إليه (بإذن الله تعالى).
وأنا أقر بأن عبارة ابن معين قاسية في حق حفص القارئ، لكنه معدود عند المحدثين في طبقة متعنتي النقاد الذين يغمزون الراوي بالغلطتين والثلاث ([20]) ! فلا جرم أنه أطلق هذه اللفظة في حالة استدعت ذلك لا نعلمها، فكم من راو تركه الأئمة ولم يجترئوا على تكذيبه، وصرح ابن معين بكذبه:
¥