ثانيها ـ أني لم أجد عنه تعديل أحد ممن يسمى حفصًا من أهل الكوفة إلا ابن غياث فقد أثنى عليه وقدمه، فإذا ذكر حفص مبهمًا في أهل الكوفة فلا ينصرف الذهن إلا إلى حفص بن غياث قاضي الكوفة (194هـ) فإنه في زمنه لم يكن أشهر منه، وقد كان وكيع يقدمه ويثني عليه كثيرًا، فالذي أرجحه أن هذا التوثيق لا يمكن أن يكون في حفص بن سليمان إن ثبت، وذلك لأن ضعف حفص بن سليمان مشهور متواتر عند المحدثين النقاد الكبار، فلو كان وكيع بن الجراح وثقه في الحديث لاشتهر قوله فيه ولعُرف، لأن وكيعًا معدود عندهم من كبار أهل النقد والمعرفة فهو في الثبت والمتانة قرين القطان وابن مهدي.
فمن أقواله في حفص أنه ربما سئل عن الشيء فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فسلوه ([2]).
قال علي بن الحسن الهسنجاني: سمعت نعيم بن حماد، قال: سمعت وكيعًا يقول: إذا ذهب حفص من الكوفة ذهب غريب حديثها ([3]).
فانظره في هذا النص لم ينسبه لكنا عرفنا أن مراده ابن غياث لا غيره لشهرة حفص في الرواية والتفرد وعلو السماع.
ثالثها ـ أن الكتب المتقدمة في الجرح والتعديل لم تشر لتوثيق وكيع، وإنما نقل عن الداني وهو متأخر، وليس من طبقة المؤرخين المهرة، إنما هو ناقل والناقل قد يعرض له الوهم أوالالتباس والاشتباه.
فإني أشك أن هذه الرواية ليست في حفص بن سليمان، وأقرب مثال أراه يؤيد هذا الاحتمال أن هناك راو يقال له: أبو عمر البزار الأسدي الكوفي ([4]).
فاتفق معه في كنيته والنسبة للقبيلة والبلد، وشابهه في القب، والغريب أني وقفت في بعض كتب التراجم المتأخرة على ذكره بهذه الصفة وفي ترجمته وثقه وكيع! فوقع في رُوعي احتمال أن يكون الاشتباه دعا إلى نقل قوله في أبي عمر البزاز الأسدي الكوفي القارئ.
وهذا كان عندي على سبيل الظن، فما زلت أفتش بحثًا عن صيغة توثيق وكيع له، فلما وجدتها تيقنت من حصول الوهم له، وذلك أن ابن أبي حاتم ذكر في (الجرح) ([5]) قسم الكنى ترجمة هذا الراوي، فقال: (أبو عمر البزار روى عن مسلم البطين، روى عنه سفيان الثوري سمعت أبى يقول ذلك. أنا عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي، قال: قال أبى: قال وكيع: أبو عمر البزار ثقة).
ثم وجدتها في مصدرها الأساس في (العلل) ([6]): بلفظ: قال أبي: (قال وكيع: عن سفيان، عن أبي عمر البزار، قال وكيع: وكان ثقة).
فأحسب أن هذه العبارة وقعت للداني فوهم فظنه أبو عمر البزاز!.
وهو معروف بكنيته ولقبه فهذا ابن معين قال: (أبو عمر البزاز صاحب القراءة ليس بثقة) .. وإنما أضاف (صاحب القراءة) ليميزه عن هذا غيره وأراه هذا الذي ذكرنا.
وعن أحمد: (أبو عمر البزاز متروك الحديث) ([7]) .. فالاشتباه واقع بين الرجلين خاصةً أن بينهما اشتباه من أربعة أوجه.
رابعها ـ لو سلمنا بتعديله له فلا بد من الاطلاع على لفظ التوثيق هذا فإن بعض أهل العلم قد يتصرف في العبارة، أو يوردها بالمعنى فتفهم على غير وجهها الذي أوردها عليه الناقد.
ولا نبعد في ضرب المثل فمن خلال كلام وكيع في بعض الرواة نجد كيف حصل حمل كلامه على غير محمله .. قال مغلطاي في (الإكمال) ([8]) في ترجمة سعيد بن المرزبان: وثقه وكيع ([9])، وضعفه ابن عيينة.
قال ابن حجرفي (التهذيب) ([10]): الحكاية التي حكيت عن وكيع لا تدل على أنه وثقه، وقد ذكرها الساجي: عن محمود بن غيلان، قال: سئل وكيع عن أبي سعد البقال، فقال: (أحمد الله! كان يروي عن أبي وائل، وأبو وائل ثقة). وقد ذكرها المؤلف بلا عزو فحذفتها ثم احتجت إليها هنا فذكرتها معزوة. اهـ.
والتوسع في إطلاق التعديل على عبارات لا يفهم منها ذلك، يكثر في تصرفات المصنفين، فقد يكون وكيع عدله بنوع من أنواع التعديل ففهم الداني توثيقه له، خاصةً أنا رأينا كيف تصرف في عبارة ابن معين فأهمل الجرح وأثبت التعديل.
خامسها ـ لو سلمنا بعدم صحة أحد الاحتمالات السابقة .. فإنه يمكن صرف هذا التوثيق إلى ما اشتهر به حفص ألا وهو الثقة في ضبط الأحرف لا في رواية الحديث، وبهذا يجتمع وكيع مع غيره في تعديله، وتتفق الأقوال فيه ولا تضطرب .. ومعلوم أن أولى ما يصار له عند وقوع التعارض هو محاولة الجمع، ولا يصار إلى الترجيح إلا عند فقد القرائن.
وبعد عرضنا لهذه الاحتمالات نعود للنظر في القاعدتين اللتين ذكرهما الأستاذ.
القاعدة الأولى: أن أهل كل بلد أعرف بعلمائهم .. وهو قوله: (وأهل الكوفة أعرف بعلمائهم).
القاعدة الثانية: أن قول المعاصر مقدم على قول المتأخر .. (وما رَاءٍ كمَنْ سَمِعَ)!.
وهو قول وجيه فكلتاهما معمول بها عند المحدثين لكن لما كان لكل قاعدة شواذ، فلا نسلمهما في حق حفص.
أما القاعدة الأولى فإنا لم نجد أحدًا من أهل الحديث الكبار من أهل العراق روى عنه واعتمده في الحديث، وهم في زمنه كثير؛ والسبب أنه لم يكن من أهل هذا الشأن.
ثم إنه رحل من الكوفة واستوطن بغداد وجاور بمكة فلا يقال والحال هذه أن أهل الكوفة عرفوه ولم يعرفه أهل بغداد أحمد وابن المديني وابن معين وكلهم ضعفوه.
ومن جهة أخرى فالكوفة والبصرة وبغداد متقاربة، تعد بلدًا واحدًا ولا تخفى أخبار وأحوال محدثيها على النقاد الذين جلهم من هذه البلاد.
أما القاعدة الثانية فهي صحيحة لكن الرؤية هنا ينبغي أن لا تكون مجردة عن المعرفة، فإنها إذا كانت كذلك لم تعتمد، وهو ما صنعناه مع جميع ما أورده الأستاذ من تعديل تلاميذه له فإنه من هذه البابة .. وهو ما ستراه في الوقفات التالية.
---الحواشي---
([1]) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (13/ 469).
([2]) معرفة الثقات للعجلي برقم (331)، التهذيب (2/ 358).
([3]) تقدمة المعرفة (ص229).
([4]) اسمه دينار بن عمر، وقد ترجمه كذلك ابن أبي حاتم في الجرح (3: 430/ برقم1957) في الأسماء .. وساق توثيق وكيع له.
([5]) الجرح (9: 407/ برقم 1963).
([6]) ا العلل رواية عبدالله (2: 22/ برقم1419)، وانظر (1: 350/ برقم660)، و (2: 526/ برقم3475)، (3: 399/ برقم 5763).
([7]) تاريخ بغداد (6/ 187).
([8]) الإكمال (5/ 346).
([9]) الذي في ضعفاء العقيلي (2/ 115): كان يروي عن أبي وائل وأبو وائل ثقة. فالوهم إنما هو من مغلطاي نفسه.
([10]) التهذيب (4/ 70).
¥