يقول الشيخ علي محمد الضباع رحمه الله:
(وحقيقة الإظهار أن ينطق بالنون والتنوين على حدهما ثم ينطق بحروف الإظهار من غير فصل بينهما وبين حقيقتهما، فلا يسكت على النون ولا يقطعها عن حروف الإظهار.
وتجويده إذا نطقت به: أن تسكن النون، ثم تلفظ بالحرف ولا تقلقل النون بحركة من الحركات، ولا تسكنها بثقل ولا ميل إلى غنة، (لأن هذا يقرب من الإخفاء)، ويكون سكونها بلطف).
وإذا نظرنا إلى حروف الإظهار، فإننا نجد أنها، كلها، من الحروف الحلقية، (أي التي تخرج من الحلق)، ولذا سمي هذا الإظهار بالإظهار الحلقي، تمييزا له عن الإظهار الشفوي، الخاص بالميم الساكنة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهذا ما يفسر علة الإظهار، كما بينها الشيخ الضباع، رحمه الله، بقوله:
(والعلة لإظهار النون الساكنة والتنوين عند الأحرف الستة المذكورة، بعد مخرجهما، (أي النون والتنوين) عن مخرجهن، (أي حروف الإظهار)، لأنهن من الحلق، والنون من طرف اللسان، والإدغام إنما يسوغه التقارب)، فالمسافة بين الحلق وطرف اللسان، مسافة كبيرة، ناسب معها الإظهار، دون الإدغام، الذي يسوغه التقارب، والإخفاء، الذي يلزم له نوع تقارب.
ويواصل الشيخ، رحمه الله، فيقول: (ثم لما كان النون والتنوين سهلين لا يحتاجان في إخراجهما إلى كلفة، (لأن مخرجهما، وهو طرف اللسان قريب)، وحروف الحلق أشد الحروف كلفة وعلاجا في الإخراج، (لبعد مخرجها، وهو الحلق)، حصل بينهما وبينهن تباين لم يحسن معه الإخفاء كما لم يحسن الإدغام إذ هو قريب منه، فوجب الإظهار الذي هو الأصل).
ورغم اتحاد مخرج الحروف الحلقية، إلا أنها، في الحقيقة، تتوزع على مناطق الحلق الـ 3: أقصاه ووسطه وأدناه من جهة اللسان، أي المنطقة التي تتصل بأصل اللسان مباشرة.
فمن أقصاه: يخرج الهمز والهاء، ويسمى الإظهار في هذه الحالة: "إظهارا أعلى":
ومنه:
قوله تعالى: (من ءامن).
وقوله تعالى: (كل ءامن).
وقوله تعالى: (من هاد)
وقوله تعالى: (جرف هار)
والإظهار هنا يكون أعلى من الإظهار عند حروف وسط الحلق و أدناه.
ومن وسطه: تخرج العين والحاء المهملتان، ويسمى الإظهار في هذه الحالة: "إظهارا أوسط":
ومنه:
قوله تعالى: (من عمل).
وقوله تعالى: (حقيق على)
وقوله تعالى: (من حكيم).
وقوله تعالى: (عليم حكيم).
والإظهار هنا يكون أعلى من الإظهار عند حروف أدنى الحلق، وأدنى من الإظهار عند حروف أقصى الحلق.
ومن أدناه: تخرج الغين والخاء المعجمتان، ويسمى الإظهار في هذه الحالة: "إظهارا أدنى":
ومنه:
قوله تعالى: (من غل).
وقوله تعالى: (عفوا غفورا).
وقوله تعالى: (من خزي).
وقوله تعالى: (يومئذ خاشعة).
والإظهار هنا، هو أدنى أنواع الإظهار، فهو أدنى من الإظهار عند حروف أقصى ووسط الحلق، والسبب في ذلك أن المسافة بين مخرج النون الساكنة والتنوين، ومخرج الغين والخاء، قد قلت عن مثيلتها بين مخرج النون الساكنة والتنوين، وحروف وسط الحلق وأقصى الحلق، بل إن هذا القرب البين، قد سوغ لبعض القراء، أن يخفي النون الساكنة والتنوين، عند الغين والخاء، كما فعل أبو جعفر، رحمه الله، فغير الحكم من إظهار إلى إخفاء، وإن كان أضعف درجات الإخفاء، فمخرج الغين والخاء قريب جدا، إن لم يكن ملاصقا، لمخرج القاف والكاف، وهما حرفا الإخفاء، التاليين مباشرة لحروف الإظهار، ولذا فإن الإخفاء عندهما يكون في أدنى درجاته، فسوغ هذا التقارب، إخفاء النون الساكنة والتنوين، عند الغين والخاء، فكأن أبا جعفر، رحمه الله، جعل مخرج الغين والخاء والقاف والكاف، مخرجا واحدا، فحرفان مخرجهما أدنى الحلق من جهة اللسان (وهما الغين والخاء)، وحرفان مخرجهما أقصى اللسان الملاصق لأدنى الحلق تماما (وهما القاف والكاف)، فقرب المسافة، كما تقدم، مسوغ لمذهب أبي جعفر، رحمه الله، ويلزم من ذلك القول بعكس هذا القول، فيقال: إذا كان الأمر كذلك فلم لا تظهر النون الساكنة والتنوين عند القاف والكاف، بحيث يضمان لحروف أدنى الحلق، لا أن يضم حرفا أدنى الحلق لهما، كما في مذهب أبي جعفر؟، والجواب أن هذا من الناحية الاصطلاحية، قد يكون جائزا، ولكن عمدتنا في القراءة، التلقي، فالقراءة سنة متبعة، للرواية فيها أوفر نصيب، فهي الحاكمة على القواعد، لا العكس، فإذا تعارضت الرواية مع قاعدة يسوغ العمل بها، قدمت الرواية قولا واحدا، لأن هذا العلم، كما سبق، من علوم التلقي، وسيأتي إن شاء الله، في باب المدود أمثلة لمدود، لا تمد، لورود الرواية بذلك، رغم كونها من جهة القواعد الاصطلاحية، صالحة لأن تمد.
وهذا الحال كحال قواعد علم النحو تماما، فالعبرة بما نقل من القراءات المتواترة، لا القواعد المستحدثة بعدها، فالنحو فرع القرآن، والتجويد فرع القرآن، فمنه استنبطا، فكيف يسوغ الحكم على الأصل بالفرع، والله أعلم.
وقد لخص الشيخ الضباع، رحمه الله، ما سبق، بقوله:
(وكلما بعد الحرف كان التبيين أعلى:
فتظهر النون الساكنة والتنوين عند الهمزة والهاء إظهارا بينا ويقال له: أعلى.
وعند العين والحاء أوسط.
وعند الغين والخاء أدنى.
ولا خلاف بين القراء العشرة في ذلك، إلا ما كان من مذهب أبي جعفر من إخفائهما عند الغين والخاء المعجمتين.
ووجهه عنده: قربهما من حرفي أقصى اللسان: القاف والكاف)، والله أعلم.
والله أعلى وأعلم
يتبع إن شاء الله
¥