والسبب في ذلك: أنّه يراعي أولاً الترجيح بين الروايات، ويختار أشهرها وأكثرها رواة، ويتجنّب ما شذّ به واحد، كلّ ذلك حسب علمه في ذلك، وما بلغه وما بلع أهل مصره، فهذا نافع المدني يقول: قرأت على سبعين من التابعين فما اتفق عليه اثنان أخذته، وما شذّ فيه واحد تركته ... "
والسبب الثاني: التخفيف على التلاميذ واختيار ما يناسب بعضهم دون بعض أو حسبما يُقرأ به أهل بلد التلميذ، فهذا ورش عن نافع لم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه، وذلك لأنّ ورشاً قرأ عليه بما تعلّم في بلده أي بلد ورش فوافق ذلك رواية قرأها نافع عن بعض أئمّته فتركه على ذلك.
ومن هنا يظهر لنا أنّه لا دخل للرأي وللقياس في القراءات، فإذا وجدنا أحداً يقول: هذا اختيار فلان فلا نفسّر هذا بأنّه استحسان منه أو تدخّل من القراء بقياس قراءة على قراءة أخرى حاشاهم الله من ذلك فقد أجمعوا على منعه وحرمته كما سبق." (تأمّلات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة ص26).
ثمّ قال حفظه الله تعالى: " بعد استعراض السريع في تعدد القراءات تبين لنا أنّ القراء لم يختاروا قراءة باستحسان منهم أو راق في نظرهم كما قال الشيخ الجليل يغفر الله لنا وله، فلعلّ ما قاله الشيخ يرحمه الله في حقّ القراء والمحررين منهم سهو منه، ولكلّ عالم هفوة. ثمّ ذكر – يرحمه الله – أنّه قد وقع بين علماء التحرير اتفاق في مواضع واختلاف في أخرى ونقدٌ لأعمال بعضهم البعض فما يثبته هذا ينفيه ذاك وما يجيزه البعض يمنعه البعض الآخر. أقول – أي الشيخ عبد الرازق – هذا شأن المجتهدين في أيّ بحث علميّ ولا ينبغي أن نسميه اختلافاً إنّما هي استدراكات بعضهم على بعض للوصول إلى الصواب، ولا عيب في هذا فقد استدرك الحاكم على البخاري ومسلم واستدرك الذهبي على الحاكم وهكذا، فجزى الله الجميع خيراً ولا ننكر عليهم جهدهم. " انتهى كلامه (نفس المصدر ص36).
ثمّ قال حفظه الله تعالى: " المسألة الثانية: تتعلّق بقوله تعالى {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}، قال ابن الجزري في نظم الدرة: ووصل فأجمعوا افتح طوى. ومعناه: أنّ ابن الجزري أمر بقراءة {فاجمعوا} بهمزة الوصل مع فتح الميم لمرموز طوى وهو رويس وكلّ العلماء الذين شرحوا الدرة خصوصاً القدامى منهم فسروا النظم على ظاهره على ما أراده مؤلّفه دون تحقيقٍ لطرق الرواية الصحيحة حتى جاء العلامة المتولي في الوجوه المفسرة وكذلك العلامة الشيخ الضباع في شرحه على الدرة فقد ذكرا أنّ هذه القراءة ليست من طريق الدرة والتحبير ووافقهما جميع القراء في وقتهما إلى اليوم، وعملوا بالصواب ولم يقرءوا بها من طريق الدرة وأهملوا نصّ ابن الجزري في الدرة لأنّه مخالف لما جاء في التحبير.
ويستفاد من هذه المسألة الأمور التالية:
1 – أهمية التحرير والتحقيق لإثبات القراءة التي ذكرت في النشر وغيره من طريقها الصحيح.
2 – عدم التمسّك بقراءة الشيخ المقرئ إذا ثبت عدم صحتها وهذا ما فعله القراء في عصر الضباع والمتولي في هذه المسألة وغيرها إلى اليوم.
3 – لا يجوز التمسّك بظاهر نظم الدرة أو غيرها أذا ثبت بالتحقيق العلمي أنّ فيه نظر كما ثبت في هذه المسألة وغيرها كما سبق في نظم الشاطبي.
4 – قولهم: القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأوّل ليس على إطلاقه بل ذلك مشروط بأن تكون القراءة صحيحة لا تخالف الكتب الثلاثة الشاطبية والدرة والطيبة بعد تحقيقها فإذا ثبت عدم صحتها وجب العدول إلى الصواب دون التمسّك بقراءة الشيخ، وهذا ما فعله القراء إلى اليوم في هذه المسألة ولا خلاف فيها بينهم.
فقد كان شيوخ الإقراء والمؤلفون يشرحون النظم على ظاهره وبالتالي يطبقونه في القراءة والإقراء،وبعد التحقيق عملوا بالصواب في إقرائهم وتأليفهم كالشيخ الضباع والشيخ القاضي في الإيضاح وغيرهما، وتركوا ما كانوا عليه. " انتهى كلامه حفظه الله تعالى (نفس المصدر ص 46، 47)
أقول: من خلال ما ذكره المحقق الشيخ عبد الرازق تبيّن:
أوّلاً: أنّ التحريرات لا تقوم على الرأي المحض بل الخلاف يدور بين ظاهر النصّ و أصول النصّ والكلّ لا يخرج عن المنصوص.
ثانياً: أنّ المشافهة لوحدها لا تكفي بل لا بدّ من التحقيق وعرض المشافهة على النصوص وهي إمّا على ظاهر النشر والمنظومات التي تندرج تحتها كالشاطبية والدرة والطيبة، وإمّا على أصول النشر وهي الكتب التي روى منها ابن الجزري القراءات وهي التي تسمّى بأصول النشر ككتاب التيسير وجامع البيان للداني والتذكرة لابن غلبون والوجيز للأهوازي وغير ذلك فإن ثبت في الأصول ما يخالف ظاهر النظم عملوا بالأصل. وهو المنهج الذي سار عليه المحققون لذا كان النصّ مقدّم على المشافهة وهذا ما يؤكده قول مكي والداني " العلم فطنة ودراية أكثر منه سماعاً ورواية ".
ثالثاً: مخالفة المشافهة والعدول عنها إذا ثبت ما يخالفها من النصوص المعتبرة لا سيما المجمع عليها.
رابعاً: يدخل الاجتهاد عند غموض نصٍ من النصوص القديمة بحيث يكون معناه قد يحتمل عدّة معاني فيؤخذ بظاهر النشر لغموض الأصل أو العكس فقد تكون عبارة النشر فيها غموض وهذا الغموض يزول عند الرجوع إلى الأصل وهكذا. فالخلاصة أنّ الرأي لا دخل له إلاّ فيما لا نصّ فيه أو عند غموض النصّ وهذا قليل جداً.
وهذا يدلّ أنّي لم أخترع ما قلته من نفسي وما يحقّ لمثلي ذلك، فأرجوا أن تقبل هذه القاعدة من محقق عالمٍ مصريّ معروف إن لم تقبلها من نكرة وطالب علم جزائري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
محمد يحيى شريف الجزائري
¥