تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فأوهم أنها رواية في حديث عبيدالله، وإنما هي من رواية شرحبيل! فلعل هذا الخلط من أحد النساخ أو الطباع.

وإذا عرفت ما تقدم؛ يتبين لك أن الإحفاء غير ثابت عن النبي صلي الله عليه وسلم فعلا، وإنما ثبت عن بعض الصحابة، كما ثبت عن بعضهم خلافه، وهو إحفاء ما على طرف الشفة، وهو الذي من فعله صلي الله عليه وسلم في شارب المغيرة كما سيأتي بعد صفحات. وهذا الإحفاء هو المراد بالأحاديث القولية الآمرة بالإحفاء وما في معناها، وليس أخذ الشارب كله؛ لمنافاته لقوله صلي الله عليه وسلم:

"من لم يأخذ من شاربه ... ". والأحاديث يفسر بعضها بعضا، وهو الذي اختاره الإمام مالك، ثم النووي وغيره، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.

واختار الطحاوي الإحفاء، وأجاب عن حديث المغيرة بقوله:

"فليس فيه دليل على شيء؛ لأنه يجوز أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء الشارب"!

قلت: وهذا الجواب ظاهر التكلف؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان في بيته؛ لأن في الحديث - كما تقدم - أن المغيرة كان ضيفا عليه صلي الله عليه وسلم لما قص شاربه، فهل يعقل أن لا يكون عنده صلي الله عليه وسلم مقراض بل مقاريض؛ إذا تذكرنا أنه كان له تسع زوجات؟!

فلعل الطحاوي لم يستحضر ضيافة المغيرة عليه صلي الله عليه وسلم، أو أنها لم تقع له، وهذا هو الأقرب الذي يقتضيه حسن الظن به؛ لأنه إنما روى الحديث مختصرا.

وكذلك ذكره الشوكاني (1/ 101)، وقال عقبه - بعد أن حكى خلاصة كلام الطحاوي بقوله: "قال: وهذا لا يكون معه إحفاء" -:

"ويجاب عنه أنه محتمل، ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة، وهو إن صح كما ذكر؛ لا يعارض تلك الأقوال منه صلي الله عليه وسلم"!

قلت: وجواب الشوكاني أبعد عن الصواب من جواب الطحاوي؛ لأن الاحتمال المذكور باطل؛ لا يمكن تصوره من كل من استحضر قص الشارب على السواك.

وأما ترجيح أقواله صلي الله عليه وسلم؛ فهو صحيح لو كانت معارضة لفعله معارضة لا يمكن التوفيق، وليس الأمر كذلك؛ لما سبق بيانه.

واعلم أن الباعث إلى تخريج هذا الحديث: أنني رأيت الشوكاني ذكره من حديث ابن عباس نقلا عن ابن القيم، فارتبت في ذلك، فرجعت إلى كتابه "زاد المعاد"؛ فرأيته فيه بلفظ: كان يجز شاربه.

فعرفت أنه تحرف على الشوكاني أو الناسخ أو الطابع لفظ: (يجز) إلى: (يحفي)! ويؤكد ذلك أن ابن القيم قال عقب حديث ابن عباس هذا مباشرة:

"قال الطحاوي: وهذا (يعني: الجز) الأغلب فيه الإحفاء، وهو يحتمل الوجهين".

قلت: فلو كان لفظ الحديث: (يحفي)؛ لما صح تفسيره بما ذكر، كما هو ظاهر.

ثم اعلم أن حديث ابن عباس ورد من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا بألفاظ؛ هذا أحدها.

أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 333).

والثاني: بلفظ:

كان يقص شاربه.

أخرجه الإمام أحمد (1/ 301)، والدينوري في "المجالسة" (26/ 25 - 26)، وعنه ابن عساكر في "التاريخ" (2/ 166/ 2)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11725)، وزادوا:

وكان أبوكم إبراهيم من قبله يقص شاربه.

والثالث: بلفظ:

كان يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله.

أخرجه الترمذي (2761) من طريق إسرائيل عن سماك به.

واللفظان قبله أخرجهما من ذكرنا من طريق حسن بن صالح عن سماك به.

والحسن بن صالح وإسرائيل؛ كلاهما ثقة. فالظاهر أن هذا الاختلاف في لفظه؛ إنما هو من سماك بن حرب؛ فإنه متكلم فيه إذا روى عن عكرمة؛ قال الحافظ في "التقريب":

"صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخرة؛ فكان ربما يلقن".

أقول هذا تحقيقا للرواية، وإلا؛ فلا فرق عندي بين هذه الألفاظ الثلاثة من حيث الدراية؛ فإن لفظ: (يجز) هو بمعنى: (يقص)، وبمعناه اللفظ الآخر: (يأخذ من شاربه)؛ فإن (من) تبعيضية؛ فهو كقوله صلي الله عليه وسلم:

"من لم يأخذ من شاربه فليس منا". أخرجه الترمذي وغيره وصححوه.

وقد جاء بيان صفة الأخذ في السنة العملية؛ فإليها المرجع في تفسير النصوص القولية المختلف في فهمها؛ فإن من القواعد المقررة: أن الفعل يبين القول حتى لو كان من كلام الله تعالى.

وإليك ما وقفت عليه من السنة:

أولا: عن المغيرة بن شعبة قال:

ضفت النبي صلي الله عليه وسلم ذات ليلة .. وكان شاربي وفى، فقصه لي على سواك.

رواه أبو داود وغيره. وإسناده صحيح، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (182) و "مختصر الشمائل" (140).

وفي رواية للطحاوي والبيهقي:

فدعا بسواك وشفرة، فوضع السواك تحت الشارب، فقص عليه.

ثانيا: عن أيوب السختياني عن يوسف بن طلق بن حبيب:

(/3)


أن حجاما أخذ من شارب النبي صلي الله عليه وسلم، فرأى شيبة في لحيته ... الحديث.
رواه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 433).
قلت: ورجاله ثقات؛ غير يوسف بن طلق بن حبيب؛ فلم أعرفه! ومن المحتمل أن يكون قوله: (يوسف بن) خطأ من الناسخ أو الطابع، أو محرفا عن شيء؛ كأن يكون (أبي يوسف طلق بن حبيب)؛ فإن طلقا هذا قد ذكر المزي في الرواة عنه من "تهذيبه": أيوب السختياني. فإذا ثبت هذا الاحتمال؛ فيكون الإسناد صحيحا مرسلا؛ فهو شاهد قوي لما قبله.
ثالثا: عن مندل عن عبدالرحمن بن زياد عن أشياخ لهم قالوا:
كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يأخذ الشارب من أطرافه.
أخرجه ابن سعد (1/ 449).
لكن مندل هذا - وهو ابن علي العنزي - ضعيف لسوء حفظه.
وعبدالرحمن بن زياد لم أعرفه، ويحتمل أن يكون عبدالرحمن بن زياد؛ تابعي روى له الترمذي. أو عبدالرحمن بن زياد مولى بني هاشم، وكلاهما مقبول عند الحافظ. والله أعلم.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير