وذكرت لكم أنهم يمثلون على هذا بمثل الأمور العقلية، يعني: التي يخرجونها من التواتر، كمثلا أي نظرية يقتنع بها مثلا الفلاسفة، أو مثلا العلماء الغربيين في هذا العصر، فما كان مستندا إلى العقل فهذا يخرجونه تماما من مبحث التواتر، فيقولون: لا بد أن يكون مستند خبرهم الحس.
رأيت بعضهم مَثَّل بمثال لعله يكون مقربا لهذه المسألة، هذا المثال يقول: إن أبا عوانة -وليس هو صاحب المسند، وإنما هو الوَضَّاح بن عبد الله اليشكري، أحد العلماء الثقات المتوفى في حدود سنة ثمانين للهجرة- أبو عوانة هذا كان مملوكا لرجل -إن لم تخطئني الذاكرة فاسمه يزيد بن عطاء-، وكان أبو عوانة معروفا بسعة العلم، وهو من مشاهير المحدثين، وكان محبوبا لدى العامة.
ففي الحج رأى أبو عوانة سائلا يسأل، فلحقه وأعطاه دينارا، فلما أعطاه هذا الدينار -يعني- وقع هذا الدينار من هذا السائل موقعا، ثم قال: والله لأخدمن أبا عوانة اليوم خدمة -يعني كان يقول- لا تضاهيها خدمة، فوقف على طريق الحجاج حينما انصرفوا من عرفة، وكلما مر عليه أناس قال: يا أيها الناس، اشكروا ليزيد بن عطاء صنيعه. قالوا: وما ذاك؟ قال: إنه أعتق أبا عوانة.
فكل من مر عليه قال له هذا القول، فأصبح الناس يأتون إلى يزيد بن عطاء ويشكرونه ويثنون عليه، وهو يقول لهم: أنا لم أعتقه، أنا لم أعتقه، فلما كثر عليه العدد قال: والله لا أخيب أمل هؤلاء الناس. فأعتق أبا عوانة.
الذي -يعني- أورد هذا المثال كمثال عن هذه القضية يقول: إن هؤلاء الناس -برغم كثرتهم- لا يعتبر قولهم هذا متواترا في أصله، لماذا؟ قالوا: لأن مستند خبرهم ليس هو الحس، هم لم يقولوا لهذا الرجل: ما الذي أدراك؟ هل سمعت؟ أو حتى هم هل سمعوا يزيد بن عطاء حينما أعتق أبا عوانة؟ لا، لم يكن مستند خبرهم الحس؛ وإنما الخبر في أصله فيه ما فيه مما يقدح في هذا الشرط.
فلعله -إن شاء الله- بهذا المثال يكون قد وضح.
بقي في الكلام على المتواتر أن نتكلم على أقسامه، فهل للمتواتر أقسام؟ ذكروا له أقساما، لكن من أهمها قسمان:
فأول هذين القسمين المتواتر اللفظي، والثاني المتواتر المعنوي.
قالوا في المتواتر اللفظي: "هو ما تواتر لفظه ومعناه". وليس معنى قولهم: "ما تواتر لفظه ومعناه" أن يكون اللفظ منقولا حرفا بحرف كما ينقل إلينا كتاب الله -جل وعلا-، لا؛ وإنما المقصود الإتيان بألفاظ متقاربة تؤدي إلى نفس ذلك المعنى، وتشعر بأن الحديث هو نفس الحديث، حتى وإن كان هناك اختلاف في بعض الألفاظ، ويمثلون لهذا بحديث: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
فالحديث ورد بهذا اللفظ، وورد بألفاظ متقاربة مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: من تَقَوَّل علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار
فالحديث هو الحديث، وإن كان فيه شيء من اختلاف اللفظ، لكن هذا لا يؤثر عندهم، فيقولون: هذا هو المتواتر اللفظي، وهذا هو الأصل، وهو الأقوى.
أما النوع الثاني: وهو المتواتر المعنوي، فيمثلون له بأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فيقولون: لو نظرنا في كل واحد من هذه الأحاديث لا نجده ينطبق فيه أو تنطبق عليه شروط التواتر، لكن لما جاءنا -مثلا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر مثلا رفع يديه إلى السماء يدعو الله -جل وعلا-: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَد بعدها في الأرض أبدا. حتى سقط الرداء من على منكبه، وأبو بكر -رضي الله عنه- يناشده ويقول: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك. .
هذا الحديث يفيد أي شيء؟ يفيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع يديه بالدعاء، يرفع يديه حال الدعاء.
طيب. . هذا حديث.
الحديث الآخر مثلا: حينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر جاء رجل، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستسقي، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول أنس- يديه حتى رُئِي بياض إبطيه، فدعا الله -جل وعلا-: اللهم اسقنا غيثا مغيثا. . إلى آخر الحديث.
فهنا هذا الحديث يفيدنا أي شيء؟ يفيدنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضا رفع يديه حال الدعاء.
¥