ومعرفة نكارة الإسناد مما يختص به المحدثون الحفاظ الناقدون، فلا يعرج على قول غيرهم فيه، بخلاف نكارة المتن، فقد يتكلم فيه المحدثون وغيرهم من الفقهاء، أما هذا الباب فهو من أخص علوم الحديث وأدق مباحث الأسانيد.
فإن أئمة الحديث ونقاده حيث يحكمون على الإسناد بالصحة والاستقامة وعدم النكارة والسقامة لا يكتفون بالظاهر من اتصاله وثقة رواته، بل لهم نظر ثاقب وفهم راجح ورأي صادق مبني على اعتبار معانٍ في الإسناد حيث وجدت فيه أو وجد بعضُها دعاهم ذلك إلى إنكاره والحكم عليه بعدم الاستقامة وإن كان متصلا برجال ثقات.
وحيث افتقدت أو وجد فيه من المعاني ما يدل على عكس ما تدل عليه المعاني السابقة من حفظ الحديث وصحته دعاهم ذلك إلى تصحيحه والحكم عليه بالاستقامة وحفظ الراوي له.
وهذه المعاني هي التي يعبر عنها بعضُ أهل العلم كالحافظ ابن حجر والعلائي وابن رجب وغيرهم بالقرائن.
ويقولون: للحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا، وإنما يعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم.
ويقولون: والقرائن كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الروايات، بل كل رواية يقوم بها ترجيح خاص، لا يخفى على العالم المتخصص الممارس الفطن، الذي أكثر من النظر في العلل والرجال.
55
وفي معرض ذلك يقول الحافظ ابن حجر (النكت 2/ 726):
وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه.
.........
ويقول الحافظ السخاوي (فتح المغيث 1/ 274):
وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدِل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة.
هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والترجيح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنى.
فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.
فتقليدهم والمشي وراءهم وإمعان النظر في تواليفهم وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ومداومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضح يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله.
(59)
فالرجل الضعيف يحفظ المتن غالبا، وقد يكون فقيها فاضلا يحفظ المتن، إلا أنه ليس بالحافظ للأسانيد، فإذا به يجيء بالمتن المعروف على وجهه، بيد أنه يخطئ في إسناده، أو يجيء له بإسناد آخر غير إسناده الذي يعرف به.
(67)
قال الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 5 - 6)
((ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يحلق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا إلى الطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء قال: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما، ونصب لكل قوم إماما، لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيانُ ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا.
إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم)).
.........
قال عبد الله بن المبارك (الجامع للخطيب 2/ 296):
إذا أردت أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض.
.........
وقال علي بن المديني (مقدمة ابن الصلاح ص 117):
الباب إذا لم تجتمع طرقه لم يتبين خطؤه
.........
وقال الخطيب البغدادي (الجامع 2/ 295)
والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط
.........
وقال الحاكم أبو عبد الله (معرفة علوم الحديث 59 - 60)
¥