وزاد بعض البلاغيين، أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب. وفيه نظر، لأن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب، لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من جهة وحشيته وغرابته.
وأما فصاحة الكلام، ففي براءته من عيوب ثلاثة أيضا – وذلك بعد خلوص مفرداته من العيوب السابق ذكرها -:
oتنافر الكلمات: وهو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، كقول الشاعر: (في رفع عرش الشرع مثلك يشرع).
oضعف التأليف: وهو أن يكون الكلام مخالفا في تركيبه المشهور من قواعد النحو، كالإضمار قبل ذكر المرجع لفظا ومعنى وحكما، كما في قول الشاعر:
(ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا من الناس، أبقى مجده الدهر مطعما)) [3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn3)(.
o التعقيد: وهو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد، لخلل واقع فيه. وهو نوعان: لفظي ومعنوي. فالأول كقول الشاعر:
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
والثاني كقول العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
وقد اشترط بعض العلماء في فصاحة الكلام، خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات. وليس الأمر على إطلاقه، فقد يوجد من ذلك في الكلام الفصيح، بل في أفصحه، كما في قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم). والمرجع في هذا إنما هو إلى ثقل اللفظ أو خفته على اللسان.
هذا ملخص ما ذكره البلاغيون في هذا المبحث.
لكن العمدة – عند التحقيق – إنما هي على لحظ تصرفات البلغاء في خطبهم ورسائلهم وقصائدهم، لا على هذه الضوابط الرياضية الصارمة؛ إذ الضوابط عصا الأعمى – فيما قيل) [4] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn4)(.
وقد كان العرب الأقحاح في الأعصار المتقدمة يرسلون الكلام على سجيتهم، فيجيء منه كلام بليغ تارة، وأقل بلاغة تارة أخرى. وكان الذوق العربي سليما من عوارض الهجنة، وآثار العجمة. فكان الاعتماد عليه في تمييز البليغ الفصيح من غيره.
ثم جاء من بعدهم فقعّدوا وأصلوا، وكان في ذلك خير كثير. لكن بالغ المتأخرون في تتبع القواعد النظرية، والجمود على القوانين الجاهزة، وأهملوا التطبيق العملي، وإعمال الذوق اللساني البليغ.
فلتكن نظرتنا إذن – في هذا البحث – نابعة من هذا الأصل الذوقي، ولنكن من القواعد على ذُكر، نتطلبها عند الحاجة إليها، حين يخوننا ذوقنا الهائم في سباسب العُجمة.
·موضوع البحث:
موضوع الكلام هو الأحاديث القولية الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يدخل في مبحثنا حديث فعلي، ولا تقريري، ولا حديث في صفة الحبيب صلى الله عليه وسلم. والأمر في هذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
ولا يدخل حديث في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد أو شك. وهذا حال الأحاديث المعلولة التي تجاذبها حالا رفع ووقف) [5] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn5)(.
ولا يدخل كذلك حديث غير صالح للاحتجاج، لكونه ضعيفا أو موضوعا أو نحوهما.
بل أزيد فأقول: لا ينبغي أن تدخل في بحثنا هذا الأحاديث المختلف في صحتها بين الحفاظ. لأن المقامَ مقامُ تأصيل وتقعيد، وهو لا يناسب مراتب الظنون، وإنما يحتاج إلى ثلج اليقين.
وهذا الاحتراز الثالث عظيم الخطر، سامق الشأن. لكن أغلب المتكلمين في هذا الباب معرضون عنه في التطبيق، مع كونهم مجمعين على صحته عند التنظير.
ولعل السبب في ذلك، تجاذب الاختصاصات العلمية. وذلك أن الباحثين في أبواب البلاغة عموما – والنبوية منها خصوصا – هم من أرباب اللغة والبيان، وليسوا من المحدثين والحفاظ.
ولذلك كثر عنذهم الاستدلال بالأحاديث التي لا تصلح للاستدلال، لفقدها ركن الثبوت، وهو الأساس الذي يبنى عليه الاحتجاج.
وقد يكون لهذا المأخذ – أي: ضرورة التأكد من ثبوت الأحاديث النبوية قبل الاستنباط منها - علاقة بإحجام جمع من العلماء عن الخوض في هذا الفن الرفيع.
¥