يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال، تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام، تشدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال".
ويقول يحيى بن سعيد: " تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثِّقونهم في الحديث - ثم ذكر ليثَ بن أبي سُلَيْم وجُوَيْبِرَ بن سعيدٍ والضَّحَّاك، ومحمد بن السائب. وقال: - هؤلاء لا يُحْمَدُ أمرُهم، ويكتب التفسيرُ عنهم". رواه الخطيب عنه في "الجامع".
والكتابة عنهم في التفسير تُحتمل؛ لأنهم قد اعتَنوا بذلك، فصاروا مِن أئمة التفسير، وكذلك مِن أئمة اللغة.
ويُحَّدث عن هؤلاء الضعفاء، وإن كان بعضهم لا يُعْتَمدُ عليه.
سبب عدم عناية الأوائل بالتفسير
وسبب عدم عناية الحفاظ الأوائل بالتفسير يرجع إلى أمور:
أولاً: الانشغال بالأحكام والمسائل الأصول وفروع الأحكام التعبُّديِّة كما تقدم بيانه.
ثانياً: وهو الأهم، ومبيِّن للسبب الأول: أن القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، يفهمه عامَّة الناس في الصدر الأول، وتفسير ألفاظه وبيانه مِن فضول العلم عند كثيرٍ منهم، بل إن فهم الأعرابي منهم لألفاظه ومقاصده يفوق فهم كثيرٍ مِن كبار المفسرين مِن المتأخِّرين، وما نزل القرآن إلا ليفهمه الناس بلا تكلُّفٍ وبيانٍ، وهذا مقتضى التكليف بمجرد السماع وبلوغ الحُجَجِ للأسماع، كما قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، لأن الأصل أن القرآن مفهوم بمجرد سماعه عند جمهور الخلْق، ولكن لمَّا توسَّعت بلدان المسلمين، وكثُرت الفتوحات، واختلط العرب بالعجم، دخلت العُجْمة على اللسان العربي، فاحتاج للتفسير، وهذا سبب قلَّة التفسير المرفوع؛ لأنه لا حاجةَ إليه عندهم، فلو فسَّروا القرآن لفسَّروه بما يرادِفه فهماً، واستوى المفسَّر والمفسَّر به من جميع الوجوه أو أكثرها، ولأصبَحَ التفسير حَشْواً، يزهد الناس في النظر فيه، مع استحالة حصول ذلك منهم؛ فالعرب تكره الحَشْوَ والتِّكرار وتُنَزِه نفسَها عنه، والنفوس تأبى أن تفسَّر لها الواضحاتُ، ولذلك كلِّه يعرفُ قلَّة التفسير للقرآن عندهم، بل إذا كان العربي يُنَزِه نفسَه والمخاطَبَ عن سماع المترادفات في كلامهم، فذلك في كلام الله أولى؛ لأن جُلَّ كلامه واضحٌ بيِّنٌ لا يُحتاجُ معه إِلى قَلبٍ ولا تَعَسُّفٍ.
مع أنهم عربٌ يُعربون الكلام سليقةً، ولا يحتاجون إلى قواعدَ وضوابطَ نحويَّةٍ، بل لا يعرفونها، لذا يقول الشاعر:
ولَستُ بِنَحْويٍّ يَلُوكُ لِسَانَهُ ** ولكن سَلِيْقيٌّ أَقولُ فأُعْرِبُ
قال الشافعي: كان مالكُ بن أنسٍ يقرأ بالسَّليقية.
لهذا امتاز لسان البصريين عن لسان الكوفيين؛ لأنهم أخذوه من منبعِه الأصلي، وهو لسان الأعراب الأقحاح، يقول الرِّياشي أبو الفضل البصري، وهو يلمز الكوفيين: إنما أخذنا اللغة من حَرَشَةَ الضِّباب وأكَلَة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكَلَة الكواميخ والشَّواريز.
ويقول أبو محمد اليزيدي البصري:
كنَّا نَقِيسُ النحوَ فيما مَضى ** على لسانِ العَرَبِ الأوَّلِ
فجاءَ أقوامٌ يقيسُونَهُ ** على لُغَى أشياخ قُطْرُبُلِ
الاحتراز في تأويل القرآن
ثم إنه يجب الاحترازُ في تأويل القرآن ما لا يجب في غيره؛ لأن تأويل كلام المتكلم مما يُنسب إليه معنىً، وإن لم ينسب إليه لفظاً، ولهذا جوّز جماعةٌ من المحدِّثين روايةَ الحديث بالمعنى بشروطه.
والعرب وغيرُهم قديماً وحديثاً يعتنون بنقل نصوص العظماء والملوك كما قالوها مِن غير زيادة أو تأويلٍ لمن يفهمُها، كما أنهم يحترزون عند الحديث معهم؛ لأن التَّبعَة في ذلك أكبرُ من غيرهم، وهذا في حقِّ الله وكلامه أعظم وأجلُّ.
ميل العرب إلى الاختصار
وكذلك الأولى في كلِّ معنى أن يُبَلَّغ بأقصرِ عبارة، ولهذا كان كلام السلف فيه من الاختصار مَعَ كمال المعنى ما ليس في كلام المتأخرين مَعَ كثرة عباراتِهِم.
¥