ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه اذاقة ,فلا حاجة لما يذكره البيانيون من أنواع الاستعارات في هذه الآية الكريمة ..
وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها (منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز) أنه لا يجوز لأحد أن يقول: إن في القرآن مجازاً, وأوضحنا ذلك بأدلته ,وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازاً أنهأسلوب من أساليب اللغة العربية ..
قال الشيخ رحمنا الله وإياه عن تفسيره لآية (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا):
فإن قيل:
إذا كان الرقيق مسلما, فما وجه ملكه بالرّق؟ مع أن سبب الرّق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟
فالجواب:
أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء, أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق, والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها, فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي, ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع, وهو الحكيم الخبير, فإذا استقر هذا الحق وثبت, ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقا بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام.
وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه, كما هو معلوم عند العقلاء.
نعم ,يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم, وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه, وفتح له الأبواب الكثيرة كما قدمنا فسبحان الحكيم الخبير {وتمّت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم}
فقوله (صدقا) أي: في الأخبار ,وقوله (عدلاً) أي:في الأحكام, ولا شك أن من ذلك العدل الملك بالرق, وغيره من أحكام القرآن.
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيمِ
قال الشيخ رحمنا الله وإياه:
في سرده لمواطن هدي القرآن للتي هي أقوم التي اهتدى إليها في الشريعة الإسلامية:
فإن قيل: أخرج الشيخان في صحيحهما وأصحاب السنن غير ابن ماجة وغيرُهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً)
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ,مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية, ودية الذهب ألف دينار , فتكون دية اليد خمسمائة دينار, فكيف تؤخذ في مقابلة ربع الدينار؟؟
وماوجه العدالة والإنصاف في ذلك؟؟
فالجواب: أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله هو الذي نظمه المعري بقوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظماً ونثراً, منها قول القاضي عبد الوهاب مجيبا له فيبحره ورويه:
عز الأمانة أغلاها, وأرخصها **** ذل الخيانةفافهم حكمة الباري
وقال بعضهم: لما خانت هانت ..
ومن الواضح أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة وإطلاقَ اسم السرقة عليها في شيئ حقير, كثمن المجن والأترجة, كان من المناسب المعقول أن تؤخذفي ذلك الشيئ القليل الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى ..
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: (ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل فلا يبعدأن يعاقبه لشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة) انتهى
فانظر ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق والتنزه عما لا يليق وقطع يد السارق في ربع دينارفصاعداً يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة, فانظر هذا الحطّ العظيمَ لدرجته بسبب ارتكاب الرذائل ..
وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصةً دون غيرها من الجنايات على الأموال كالغصب والانتهاب ونحو ذلك!!!
قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها , وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها, وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منهابقدر ما يقطَع فيه حماية لليد, ثمّ لما خانت هانت , وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى اب العلاء المعري في قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت **** ما بالها قطعت في ربع دينارِ
فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
صيانة العضو أغلاها, وأرخصها **** حماية المال فافهم حكمة الباري
وشرح ذلك: ان الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي, ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال و فظهرت الحكمة في الجانبين, وكان في ذلك صيانة من الطرفين ..
قال الشيخ رحمه الله تعالى
عند قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} في سورة بني إسرائيل ..
يرد على هذه الآيةالكريمة سؤالان:
الأول: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من {أنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه} فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره - إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لايعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره -؟؟
الثاني: إيجاب دية الخطإ على العاقلة, فيقال: ما وجه إلزام العاقلةِ الديةَ بجناية إنسان آخر؟؟
والجواب عن الأول:هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين:
الأول: أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه كما قال طرفة بن العبد في معلقته:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيبَ ياابنة معبدِ
لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر وذلك من فعله, لا فعل غيره.
الثاني: أن يهمل نهيَهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلمُ أنهم سينوحون عليه لأنّ إهمالَه نهيَهم تفريطٌ منه ومخالفة لقوله تعالى {قو أنفسكم وأهليكم ناراً} , فتعذيبه إذا بسبب تفريطه وتركِه ما امر الله به من قوله {قو انفسكم وأهليكم ناراً} الآية , وهذا ظاهرق كما ترى.
وعن الثاني: بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزرَ القاتل, ولكنها مواساة محضةٌ أوجبها الله على عاقلة الجاني, لأن الجاني لم يقصد سوءاً, ولا إثم عليه البتة, فاوجب الله في جنايته خطا الدية بخطاب الوضع, وأوجب المواساة فيها على العاقلة, ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء ..
¥