لا شك أن إعراب البسملة السابقَ يوضح معناها المراد من طلب البركة والاستعانة بالله تعالى على ما يبمَل عليه من منطوق ومفعول, ولكني وجدت صياغة لمعنى البسملة الإجمالي يؤدي الغرض على أكمل وجه واستحسنت إيراده حيث قال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى (إن الله تعالى ذكره وتقدست أسمائه أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله, وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته, وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه, سنة يستنون بها, وسبيلا يتبعونه عليها, في افتتاح أول منطقهم, وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم, حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل بسم الله, على ما بطن من مراده) تفسير الطبري1/ 50
وقيل إنَّ البسملة قسمٌ من الله تعالى, وذكر ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى فقال فيها (قال العلماء: بسم الله الرحمن الرحيم قسمٌ من ربنا أنزله عند رأس كل سورة, يقسم لعباده إن هذا الذي وضعتُ لكم يا عبادي في هذه السورة حقٌّ, وإني أفي لكم بجميع ما ضمنتُ في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري) الجامع لأحكام القرآن1/ 91
قال ابن منظور في لسان العرب (والرحمة في بني آدم عند العرب رقة القلب وعطفه, ورحمة الله عطفه وإحسانه ورزقه, والرُّحم بالضم الرحمةُ, وما أقرب رُحم فلان إذا كان ذا مرحمة وبرٍّ, أي ما أرحمه وأبرَّه) 12/ 230
وأما معنى الوصفين (الرحمن - الرحيم) فهما مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة, و (الرحمن) عند المفسرين أعم وأشمل وأشد مبالغة من (الرحيم) وسبب ذلك عندهم هو قولهم بأن الرحمن وصفٌ لله تعالى يعم رحمته بالمؤمنين ويعم كذلك رحمته بغير المؤمنين من خلقه, فالرحمان هو ذو الرحمة التي تشمل الأمم والخلائق جميعها في دار الدنيا, أما الرحيم فهو وصف مبالغة من الرحمة أيضاً ولكن المفسرين يقولون: إنه يخص رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين - فقط - يوم القيامة قال الشيخ الشنقيطي- رحمه الله - في أضواء البيان: (وعلى هذا أكثر العلماء, وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا) 1/ 40 ..
إلا أنه رحمة الله عليه استشكل على هذا القول وأجاب عن الإشكال فقال:
(فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما قررتم وبين ما جاء في الدعاء المأثورمن قوله صلى الله عليه وسلم (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)؟؟
فالظاهر في الجواب والله أعلم أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا, لكنه لا يختص بهم في الآخرة, بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضاً, فيكون معنى رحيمهما رحمتَه بالمؤمنين فيهما, والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضاً أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً) لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته, وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمةٌ بهم في الدنيا, وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضاً) 1/ 40
4 - البسملة عند القراء والفقهاء.
البسملة ثابتة لدى القراء متفقٌ عليها في أول الفاتحة, وخلافهم في أوائل السور غير الفاتحة, هل تثبت بها البسملة أم لا؟
علما أن الاتفاق عليها عند الفاتحة لا يلزم منه عدُّها آية منها, فإن من يعدها آية من الفاتحة هم جمهور القراء من الكوفيين والمكي, وغيرهم من البصريين والشاميين والمدنيين, لا يرونها آية, وفي ذلك يقول الناظم:
والكوفِ مع مكٍّ يعدُّ البسملة ... سواهما أولى عليهم عدَّ لهْ.
قال ابن الجزري رحمه الله في النشر:
قال السخاوي رحمه الله:واتفق القراء عليها في أول الفاتحة فإن ابن كثير وعاصم والكسائي يعتقدونها آية منها ومن كل سورة, ووافقهم حمزة على الفاتحة خاصة. النشر لابن الجزري1/ 210
أما اختلاف الفقهاء فقد بسطوه في كتب الفقه واختلفوا هل هي آية من الفاتحة بحيث يجب على المصلي ابتداء صلاته بها أم ليست كذلك, ولكلٍّ وجهته بدليله, ويمكن تلخيص أقوالهم في ذلك إلى ثلاث:
1 - ليست آية من الفاتحة ولا غيرها, وهو قول المالكية والأحناف, واستدلوا بحديث أنس كما في مسلم (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم)
2 - آية من كل سورة, وهو قول ابن المبارك, واستدلَّ بما رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذأغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا:ما أضحكك يا رسول الله, قال نزلت علي آنفا سورة فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر)
3 - آية في الفاتحة, وهو قول الشافعي, واستدل بما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة (إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني, وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها)
والجميع متفقون على أنها آية من القرآن في سورة النمل, كما حكاه القرطبي رحمه الله1/ 93
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين ..
¥