ومثل قوله تعالى: { .. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]؛ فالسورة الأولى – سورة إبراهيم – موضوعها " كفر الإنسان بنعمة الله " فكان مناسبًا أن يكون التعقيب - الفاصلة – عن كفر الإنسان، أما السورة الثانية – سورة النحل – فموضوعها " تعدد نعمة الله على الإنسان " فكان مناسبًا أن يعقب بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي أنه تعالى سيغفر لكم عدم إحصائكم لها، لكثرتها.
وعلى ذلك فقس كل القرآن، أما الأشد عجبًا فتحدي النظم القرآني بالحرف لا الكلمة فحسب.
* تحدي القرآن بالكلمة:
فنقرأ في سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، فالواو لا يمكن أن تضاف إلى الحالة الأولى، كما أنها لا يمكن أن تحذف من الثانية، لأنك في الحالة الأولى تشعر أن المولى عز وجل قد أضاف للكافرين – علاوة على جهنم – عذاب الفجأة، أما في الحالة الثانية فالواو تشعر بالإعداد وعدم الفجأة – وهو ما يتوافق مع فقرات أخرى من القرآن تدل على هذا المعنى -.
* تحدي القرآن بضمير الكلمة:
مثال ذلك ذكر القرآن اسمين لمسمى واحد في سورة يوسف (السقاية – الصواع).
إذ حين يكلم القرآن مستمع القرآن وقارئه يقول (سقاية) وحين يذكر كلام أصحاب القصة مع بعضهم لا يقول إلا (صواع)، فالذي يبدو أنها في أصلها سقاية (كأس) وقد استخدمت سقاية الملك هذه كمكيال للقمح النادر.
لهذا كان مناسبًا ألا يقول في آخر الفقرة (ثم استخرجه من وعاء أخيه) لأنه لو فعل لقصد به الصواع المذكر وقد اتفقنا أن القرآن
حين يخاطب مستمعه يذكر حقيقة الشيء (السقاية) ثم يذكر مسماها عند أصحاب القصة في حوارهم مع بعضهم البعض (الصواع).
* توافق تفاصيل القصة الواحدة في مواضعها المختلفة:
ومن إعجاز البيان في القرآن الكريم كذلك توافق المواضيع أو أجزاء القصص في أي موضع من القرآن فالقصة القرآنية (قصة موسى مثلًا) كما هو معلوم ترد تفاصيلها في مواطن متفرقة من القرآن؛ فقول فرعون لقومه قبل هلاكه: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] يتوافق مع ما ذكره القرآن في موضع آخر: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79].
* الثراء اللغوي في القرآن الكريم:
ومن إعجاز البيان في القرآن الكريم كذلك أن يستخدم القرآن ثلث ألفاظ اللغة العربية (1620) جذرًا (هذا لم يحدث لأي كتاب عرفه البشر، بالرغم من أن حجم القرآن ليس كبيرا) منهم (371) جذرًا يرد كل واحد منهم في القرآن مرة واحدة فقط، أي أن 23 % من جذور ألفاظ القرآن ترد مرة واحدة .. (وهي نسبة تمثل قيمة بلاغية كبرى لأن استخدام اللفظ مرة واحدة بين أكثر من خمسين ألف من الألفاظ هو قمة البلاغة، وإذا تم هذا فيما يقرب من ربع اللغة المستخدمة كان الإعجاز البلاغي عظيمًا، فالروس يفخرون بأديبهم "ليو تولستوي" لأنه في روايته "الحرب والسلام" أورد كلمة واحدة فقط لمرة واحدة (5).
كما أن هناك (196) جذرًا يرد في القرآن مرتان فقط، كذلك (118) جذرًا يرد كل واحد منهم ثلاث مرات فقط.
ما كل هذا الثراء في استخدام الألفاظ؟! هذا باب جديد من الإعجاز يسمى الإعجاز الإلكتروني – لأنه يستخدم الحاسوب – أو الإعجاز الإحصائي.
يستقبل الأستاذ هشام محمد طلبة رسائلكم وتعليقاتكم على المقالة على الإيميل التالي:
[email protected]
الهوامش:
(1) يرجع في هذا الباب للكتاب القيم: "أسرار ترتيب القرآن" للإمام جلال الدين السيوطي – دار الاعتصام.
(2) "التصوير الفني في القرآن" لسيد قطب - رحمه الله - ص (75).
(3) "الرد الجميل" لعبد المجيد صبح ص (178)
(4) "خصائص التعبير القرآني" للدكتور عبد العظيم المطعني - رحمه الله – (1/ 270).
(5) "ألفاظ القرآن الكريم دراسة علمية تكنولوجية" للدكتور علي حلمي موسى (82).
الرابط ( http://55a.net/firas/arabic/index.php?page=show_det&id=1788&select_page=9)