شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
والسورة القرآنية مع أنها ذات موضوع محدد غالب لكنها لا توجد كالمقالة في جريدة في ذات الموضوع من أولها إلى آخرها، لكنها باستخدام التسلسل المعنوي، إذ ينتقل الذهن من الشيء إلى ما يشبهه وإلى ما يقابله، وبهذا يتمكن القول ومعناه من النفس (3) فحتى لا يمل المستمع تبدأ السورة القرآنية – الطويلة خاصةً – بمقدمة عن القرآن نفسه أو عظمة المولى عز وجل ثم تمهد لموضوع السورة الذي تخوض فيه بعد ذلك ثم بلطفٍ شديد في مواضيع مشابهة أو مقابلة ثم يعود رويدًا إلى موضوع السورة الذي يختم به أو يختم كما بدأ ويمهد خلال تلك الخاتمة للسورة اللاحقة.
ومن العجيب أن نجد هذه العظمة في ترتيب الآيات والسور مع أن القرآن لم يرتب حسب تاريخ نزول كل آية أو سورة وعلى مدى نيف وعشرين سنة نزل فيها، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول كل آية يأمر الصحابة أن يضعوا كل فقرة في موضع يحدده بنفسه صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.
* الإعجاز في الاختصار وعدم التكرار والحذف والمجاز:
كذلك نجد من خصائص الإعجاز اللغوي، عدم التكرار والاختصار - أعظم ما يرد في سورة يوسف – فقصة يوسف في القرآن لا نجد فيها التفاصيل التي يهتم بها سفر التكوين في التوراة الحالية كالإسهاب في ذكر تفاصيل سني الجدب ووطأة الجوع وكيف استغل يوسف المجاعة لصالح الملك فجعل الشعب عبيدًا له - حسب زعم التوراة الحالية! - واهتمت كذلك بعمر يوسف حين تزوج وأسماء زوجه وأولاده وسبب تسمية كل واحد منهم! سورة يوسف قامت باختصار رائع حين ذكرت تطوع سقَّا الملك بالذهاب إلى يوسف في سجنه لتأويل حلم الملك .. {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] فيقول القرآن بعدها مباشرة: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ .. } [يوسف: 46] فلا ذكر لاستئذانه من الملك وركوبه دابته وطرقه باب السجن ثم دخوله على يوسف، بل لا ذكر حتى لكلمة:" قال سقا الملك:" لأن ذلك مفهوم ضمنًا.
كما يذخر القرآن بألوان التقديم والتأخير والحذف والمجاز، واختيار لفظ بعينه وغير ذلك مما يحتاج لمجلدات تشرحها، " فترى كل لفظة وقعت موقعها بحسب القياس، وبحسب ما يناسب كل حالة من حالات المخاطبين، فما من موضع مما ذكرنا نلمس فيه مداهنةً أو ليونةً أو تقصيرًا في أي جانب من جوانب القول، قوةً وفخامةً في الألفاظ، ورهبةً وعنفًا في المعاني، لذلك كان الكافرون يرهبون سماعه ويصدون عنه صدودًا " (4).
* تناسب الألفاظ في القرآن:
فترى تناسبًا للفظ مع المعنى عجيبًا في التهديد والوعيد – مثل سورة المدثر (11 – 30) والمزمل (11 – 19) وغير ذلك - أو الترغيب – مثل النور (22) والصف (10 – 13) – أو العتاب أو غير ذلك، بحيث لا يمكن أن تحل لفظًا مكان آخر مهما صغر الاختلاف، "فالنعمة" ليست "نعيما"، والعكس بالعكس، و"الوالد" لا تضع بدلًا منه "أبًا " أو العكس، وكذلك لفظ "امرأة" فلان لا يكون "زوجة"، ولفظ "استخرج" لا يكون أخرج - مثل سورة يوسف: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76].
إذ أن يوسف أراد أن يضع السقايه فلم تكن السقاية إلا في قاع وعاء بنيامين ليوحي بقصد الإخفاء، وكلمة "استخرج" تدل على صعوبة الإخراج -، كذلك {اسْتَطَاعُوا} و {اسْطَاعُوا} [الكهف: 97] فالطول في بنية الكلمة يزيد في المعنى. [للاستزادة في هذا الباب ننصح بالرجوع إلى كتاب: " معجم الفروق الدلالية في القرآن الكريم " للدكتور / محمد محمد داود – دار غريب للنشر].
* اختلاف النظم في العبارات ذات المعنى الواحد:
كذلك هناك اختلاف للنظم في العبارات ذات المعنى الواحد، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31].
ففي الحالة الأولى كان الفقر واقعًا فعلًا فكان مناسبًا أن يبدأ بالآباء، أما في الحالة الثانية فكان الفقر لم يقع بعد ويخشى أن يقع مع وجود الولد، فكان مناسبًا أن يبدأ بالأولاد ثم الآباء.
¥