واجتهدَ الأَخْفَش اجتهاداً آخَرَ أَيْضاً، وهوأَنَّ "إِنَّ" بمعنى "نَعَمْ" وتبعه بعض النَّحْوِيِّيْنَ؛ فهي حرف جواب ولا محلّ لها حينئذٍ، وَعَلَى هَذَا فما بعدها مرفوعُ المحلّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ، وخبر الجميع قوله {مَنْ آمَنَ} إلى آخره [19]، وكونها بمعنى "نعم" قولٌ مرجوحٌ، والشاهد على ذَلِكَ قول عبيد الله بن قيس الرّقيّات [20]:
بَكَرَتْ عَلَيَّ عَوَاذِلِي ........ يَلْحَيْنَنِي، وَأَلُومُهُنَّهْ [21].
ويَقُلْنَ: شَيْبٌ قَدْ عَلا ......... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ، قُلْتُ: إِنَّهْ [22].
ونقل عنه القُرْطُبِيّ قوله: «قال الأخفش: "إنّهْ" بمعنى "نَعَمْ"، وهَذِهِ "الهاء" أدخلت للسّكت [23]» [24].
ونقل السَّمِيْن الحَلَبِيّ عن هِشَام بن معاوية، رأيه بأَنْ تُضْمِرَ خبر {إِنَّ}، وتبتدئ بـ {الصَّابِؤُونَ}، والتَّقْدِيْر "إِنَّ الَّذِيْنَ آمنوا والَّذِيْنَ هادوا يُرْحَمُون" [25]، فيحذف الخبر إذ عُرف موضعه، كما حذف من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [26]؛ أي "يُعَاقَبُون".
وَيَرَى مكّيّ أنّه: «رفع {الصَّابِؤُونَ}؛ لأَنَّ {إِنَّ} لم يظهر لها عملٌ في {الَّذِيْنَ}، فبقي المعطوف على رفعه الأصليّ قبل دخول {إِنَّ} على الجملة» [27]، وهَذَا هو مذهب الفَرَّاء عينُهُ [28]، فهو يجيز الرَّفْع نسقاً على محلّ اسم "إِنّ" إِذَا لم يظهر فيه إعراب؛ لأَنَّهُ قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، ولمّا دخلت عليه لم تغيّر معناه بل أكّدته [29]، ولذَلِكَ اختصّتْ "إِنَّ وَأَنَّ" بِذَلِكَ دون سائر أخواتهما لبقاء معنى الابتداء فيها [30]، بخلاف "ليت ولَعَلَّ وكأنّ" فإنّه خرج إلى التّمنّي والتّرجّي والتّشبيه [31].
وَيَرَى بعضهم أَنَّ {الصَّابِؤُونَ} منصوبٌ، وإِنَّمَا جاء على لغةِ بني "بلحارث بن كعب" [32] وغيرهم، الَّذِيْنَ يجعلون المثنّى بالألف في كلّ حال، وكذا الواو علامة رفع المجموع سلامةً، ونقل ذَلِكَ مكّيّ في المشكل [33]، وأبو البقاء في الإملاء [34].
ورأى القاضي أبو السّعود [35]: «أنّه وسط بين اسم {إِنَّ} وخبرها دلالة علىأَنَّ "الصّابئين" مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلّها حَيْثُ قبلت توبتُهُمْ، إِنْ صَحَّ مِنْهُمُ الإِيمانُ والعملُ الصَّالِحُ، فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ» [36].
وَيَرَى أبو عليّ الفَارِسِيّ أَنَّ علامة النَّصْب في {الصَّابِؤُونَ} فتحة النون، والنون حرف الإعراب، فهي كـ "الزّيتون" و"عربون" [37]، وقال أبو البقاء: «فَإِنْ قيل إِنَّمَا جاز أبو عليّ ذَلِكَ مع "الياء" لا مع "الواو"، قيل قد أجازه غيرُهُ، والقياسُ لا يدفعه» [38].
ومِنَ الَّذِيْنَ أطالوا الكلام في هَذِهِ الآيةِ مِنَ المُتأخِّرينَ ابن عاشور، الَّذِي خالفَ فيما جاء بهِ الكثير مِنْ أقوال السّابقين، يقول: «موقع هَذِهِ الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابعٌ لدقّةِ الأمرين؛ لأَنَّ إعرابها يتعقّد إشكاله بوقوعِ قوله {وَالصَّابِؤُونَ} بحالةِ رفعٍ بالواو، في حين أَنَّهُ معطوفٌ على اسم {إِنَّ} في ظاهر الكلام» [39]، فهو يرى أنّ: «خبر {إِنَّ} محذوف دلّ عليه ما ذكر بعده من قوله {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، ويكون قوله {وَالَّذِيْنَ هَادُواْ} عطفَ جملةٍ على جملةٍ، فيجعل {الَّذِيْنَ هَادُواْ} مبتدأ، ولذَلِكَ حقّ رفع ما عُطِفَ عليه، وهو {الصَّابِؤُونَ}، ويكون قوله {مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} مبتدأً ثانياً، وتكون "مَنْ" موصولة، والرابطُ للجملة بالَّتِي قبلها محذوفاً؛ أي "مَنْ آمن منهم"، وجملة {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} خبراً عن {مَنْ} الموصولة، واقترانها بالفاء؛ لأَنَّ الموصول شبيه بالشّرط، وذَلِكَ كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [40]، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن {مَنْ} الموصولة، وليس خبرَ {إِنَّ}، على عكس قول ضابئ بن الحارث البرجميّ [41] ... فَإِنَّ وجود "لام" الابتداء في قوله "لغريبُ" عيّنَ أَنَّهُ خبر "إِنَّ"» [42].
¥