تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبناءً على هَذِهِ الوجوه الإعرابيَّة الَّتِي ذهب إليها ابن عاشور، يكون تقدير الآية الكريمة "إِنَّ الَّذِيْنَ آمنوا لا خوفٌ عليهم"، ثُمّ تأتي جملة جديدة مصدّرة بمبتدأ لتنعطف على الجملة الأولى؛ أي "والَّذِيْنَ هادوا والصابئون والنصارى"، ثُمّ تأتي جملة جديدة مصدّرة بمبتدأ ثانٍ لتكون خبراً للمبتدأ {الَّذِيْنَ هَادُواْ}؛ أي "مَنْ آمن مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون".

ويدافع ابن عاشور عن رأيه، معلِّلاً، ومستشهِداً، ومناقشاً، ويؤكّدأَنَّ هَذَا الّلفظ -وَإِنْ لَمْ يكن شائعاً- فإنّه فصيح، وله بلاغتُهُ، وحكمتُهُ الَّتِي ينطوي عليها، بقوله: «والَّذِي سلكناه أوضحُ، وأجرى على أسلوب النّظم، وأليق بمعنى هَذِهِ الآيةِ ... إِنَّ هَذَا الّلفظ كَذَلِكَ نزل، وَإِنْ كانَ استعمالاً غيرَ شائعٍ، لَكِنَّهُ مِنَ الفصاحةِ والإيجازِ بمكان؛ وذَلِكَأَنَّ مِنَ الشّائع في الكلام أَنَّهُ إِذَا أتى بكلامٍ مؤكّد بـ "إِنَّ"، وأتى باسمها وخبرها، وأُريد أَنْ يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب في ذَلِكَ الحكم، جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بِذَلِكَ على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّر السامع خبراً بحسب سياق الكلام، ومن ذَلِكَ قوله تعالى: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [43]؛ أي "ورسولُهُ كَذَلِكَ"، فَإِنَّ براءَته مِنْهُمْ في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمرٌ كالغريب، ليظهر منهأَنَّ آصرة الدِّين أعظمُ من جميع تِلْكَ الأواصر» [44].

ويكفي دليلاً على مكانة علمِ النَّحْو والإعراب، وَعَلَى فضل النَّحْوِيِّيْنَ بين مفسّريّ كتاب الله تعالى، ما قاله أَبُو حَيَّان في"النهر المادّ"، معلِّقاً على هَذِهِ الآية الكريمة، وما تقتضيه من تأويلات وتعليلات: «ودلائل هَذِهِ المسألة مقرّرة في علم النّحْو» [45]، فهو الحكم فيها، والوصي عليها، وهَذَا يدلّ على أَنَّ معنى هَذِهِ الآية متوقّفٌ على تأويل النَّحْوِيِّيْنَ لها؛ ولَعَلَّ هَذَا ما يسمّى بفقه النَّحْو الَّذِي نحتاج اليوم إلى التعمّق في دراسته، والتبحّر في تحليلاته وتأويلاته.

وكلّها تأويلاتٌ حسنة مدعومة بأبياتٍ شعريّة سبقت نزول القرآن الكريم، أو بلهجات عربيّة لإحدى القبائل العربيّة التي نزل القرآن الكريم منها جميعها، تدفع الوهم المزعوم، والخطأ الذي ادعوه، جهلاً وافتراءً وكذباً على الله تعالى؛ ليبقى القرآن القريم منزّهاً عن كلِّ عيبٍ أو نقصٍ، أو خللٍ.

والله من وراء القصد، والله أعلم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين

[1] الصّابئون: من صبأ؛ أي خرج من دينٍ على دين، كَمَا تصبأ النّجوم؛ أي تخرج من مطالعها. ابن مَنْظُور، مُحَمّد بن المُكَرَّم، لسان العرب، (صبأ)، ج4، ص2385.

[2] سورة المائدة، الآية 69.

[3] الشَّوْكَانِيّ، محمّد بن عليّ، فتح القدير الجامع بين فنّي الرّواية والدّراية من علم التَّفسير، ج2، ص77.

[4] سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج3، ص41.

[5] هو عمرو بن عوف الأسديّ، أبو نوفل (-22ق. هـ)، شاعر جاهليّ فحل، من أهل نجد، من بني أسد بن خزيمة، اشتهر بالفخر والحماسة، وله ديوان شعر. الزّركليّ، خير الدِّين، الأعلام، ج2، ص54.

[6] والقصيدة يهجو فيها بشرٌ أوسَبنَ حارِثة، والبغاة: جمع باغٍ، وهو الَّذِي يعدل عن الحقّ ويميل، والشّقاق: الاختلاف والفرقة. وهو في "الكتاب". سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج3، ص42.

وفي "الخزانة" أَيْضَاً بالرواية نفسها. البغداديّ، عبد القادر بن عمر، خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب، ج1، ص293 - 294 - 297 - 299 - 300 - 314 - 315.

ورواية الدِّيوان في العجز: "بُغَاةٌ ما حَيِيْنَا في شقاقِ". ابن أبي خازم، بشر، الدِّيوان، تحـ. د. عزّة حسن، ط2، وزارة الثّقافة، دمشق، 1392هـ-1972م، ص165.

[7] سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج3، ص42.

[8] البيت لضابئ بن الحارث البرجميّ، والرّحل: الإقامة، والقيّار: اسم راحلته.

رواه ابن قُتَيْبَة برفع "قيّارٌ". ابن قُتَيْبَة، أبو محمّد عبد الله، الشّعر والشّعراء، تحـ. أحمد محمّد شاكر، ج1، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ-2003م، ص339.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير