إن قليل المعرفة والمخبرة يمشي ومعه أوراق ومحبرة
معه أجزاء يدور بها على شيخ وعجوز لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز
...
ومحدث قد صار غاية علمه أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثاً عالياً وفلان يروي ذاك عن أسباط
والفرق بين غريبهم وعزيزهم وأفصح عن الخيّاط والحنّاط
وأبو فلان ما اسمه ومن الذي بين الأنام ملقب بسَناط
وعلوم دين اللّه نادت جهرة هذا زمان فيه طيّ بساطي
وقال الشيخ تَقِيُّ الدين السُّبكي: إنه سأل الحافظ جمال الدين المِزّي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ؟ قال: يرجع إلى أهل العرف: فقلت وأين أهل العرف؟ قليل جداً، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب، فقلت له هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحداً كذلك؟ فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين السها من الثرى، فقلت: كان يصل إلى هذا الحد؟ قال ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر لأجل الفقه والأصول.
وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: وأما المحدث في عصرنا فهو: من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه؛ واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه، وشيوخ شيوخه، طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ. وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم: «كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء»، فذلك بحسب أزمنتهم. انتهى. وسأل شيخ الإِسلام أبو الفضل بن حجر شيخه أبا الفضل العراقي فقال: ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظاً؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟ فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك. وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه، وما فوق، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعين أو أتباع التابعين، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتفى بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه، أو طبقة أخرى، فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء واستنباط الأحكام فهو أمر ممكن بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر، وانتفاء الموانع.
وقد روى عن الزهري أنه قال: «لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة»، فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ. وكم من حافظ غيره أحفظ منه. انتهى.
ومن ألفاظ الناس في معنى الحفظ، قال ابن مهدي: الحفظ الإِتقان، وقال أبو زرعة: الإتقان أكثر من حفظ السرد، وقال غيره: الحفظ المعرفة، قال عبد المؤمن ابن خلف النسفي: سألت أبا علي صالح بن محمد قلت: يحيى بن معين هل يحفظ؟ قال: لا، إنما كان عنده معرفة، قال: قلت: فعلي بن المديني كان يحفظ؟ قال: نعم ويعرف.
ومما روي في قدر حفظ الحفاظ، قال أحمد بن حنبل: انتقيت المسند من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، قيل له وما يدريك؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.
وقال يحيى بن معين: كتبت بيدي ألف ألف حديث.
وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
وقال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلثمائة ألف حديث مسموعة. وقال أبو داود: كتبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب «السنن».
¥