فلذلك اشتراط العدد -في الحقيقة يعني- من شرطه فهو غير مصيب في اشتراطه، حتى السيوطي حينما اشترط عدد العشرة هو أخل بهذا الشرط في كتابه "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" لأنه هو ممن حاول جمع الأحاديث المتواترة، ولكنه أخل بهذا الشرط في كتابه، فجمع بعض الأحاديث التي هي دون العشرة، وادعى فيها التواتر.
فهذا بالنسبة لمفهوم الكثرة.
يأتينا بحث آخر، وهو البحث في رجال الأسانيد للحديث المتواتر، هل يُشترط في الحديث المتواتر أن ننظر في رجال سنده أو لا يشترط؟
الحقيقة -أيها الإخوة- يعني كما أشار الحافظ هاهنا يقول: إن مبحث المتواتر ليس من مباحث علم المصطلح؛ لأنه ليس من مباحث علم الإسناد، فالمكان الأليق به هو كتب الأصول، أصول الفقه، وأما كتب المصطلح فالأليق ألا تبحث الحديث المتواتر.
هذا رأي الحافظ ابن حجر -رحمه الله-، والسبب أنهم نظروا، فوجدوا أن المحدثين القدامى لم يتكلموا عن المتواتر إطلاقا، وأول من عُرف أنه تكلم عن الحديث المتواتر من أهل الحديث هو الخطيب البغدادي، والخطيب البغدادي يعتبر متأخرا نوعا ما، فهو متوفى في سنة أربعمائة وثلاث وستين للهجرة.
أما قبل الخطيب البغدادي فلم يتكلم المحدثون عن الحديث المتواتر، ولعل هذا يذكرنا بما قلت لكم ليلة البارحة من أن تقسيم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى متواتر وآحاد، أن هذا أمر حادث بعد ظهور الفرق المبتدعة.
وأما علماء الحديث فلم يكونوا يعرفون هذا التقسيم، وإنما كانوا ينظرون في الإسناد، فمتى ما صح الحديث فيتلقونه بالقبول، ولا يجوز لإنسان -كائنا من كان- أن يتخلف عن العمل بذلك الحديث إلا بحجة بينة، حجة علمية، إما أن يظهر له في هذا الحديث علة قادحة تقدح فيه، حتى وإن كان الحديث صحيحا عند قوم، لكنه هو يرى عدم صحته، أو يرى أن الحديث -مثلا- منسوخ، أو غير ذلك من العلل التي تعتبر حججا علمية في رد ذلك الحديث، أو عدم العمل بذلك الحديث.
أما أن يكون الرد مبنيا على الهوى، وحجج عقلية، فهذا -في الحقيقة- ليس هو المنهج الذي كان عليه أئمة الحديث -رحمة الله عليهم.
نعود الآن إلى الكلام في مبحث الرجال، قالوا: هل يُبحث في رجال الأحاديث المتواترة أو لا يبحث؟
معظم الذين تكلموا في هذه القضية قالوا: لا يبحث في رجال الأسانيد، ولعل مقصدهم لا يبحث في ضبطتهم، وأما عدالتهم فلا بد من البحث فيها، وهذا إنما هو في الكلام على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.
لكن حينما نجدهم ينصون -وهذا يعني أمر مشهور في كتب الأصول- ينصون على أنه لا يُبحث حتى في العدالة.
بل إن ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في كتابه "روضة الناظر في أصول الفقه" يعني قال: إنه لا يبحث حتى في إسلامهم، حتى اليهودي، حتى اليهود والنصارى -يعني- يمكن أن يقبل الخبر الذي يذكرونه، لكن بالشرط الذي يدندنون حوله دائما، وهو إحالة العقل أو العادة تواطؤهم على الكذب، ما دام أن العادة أحالت تواطؤهم على الكذب فهذا يكفي عندهم.
فمن هنا -أيها الإخوة- ندرك أنهم حينما يتكلمون مثل علماء الأصول، يتكلمون عن الخبر أي خبر، ولا يتكلمون عن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أدخلوا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبع على أنه خبر من جملة الأخبار.
لكن ما دام أنهم تكلموا عن هذه المسألة من هذه الحيثية، بحيث لم يشترطوا حتى الإسلام، فيمكن أن يقبل خبر اليهود والنصارى وما إلى ذلك، فنعرف أنهم تأثروا بالمباحث الكلامية التي وردت في الكتب اليونانية التي عُرِّبت في أول الدولة العباسية في عهد أبي جعفر المنصور، واستفحل أمرها في عهد الخليفة المأمون.
هذه الكتب هي التي أدخلت البلاء على المسلمين، ومن هنا دخل ما يسمى بالتواتر، وإلا ما كانوا يعرفون هذا المبحث؛ بدليل أنهم -يعني- يتكلمون عن أنه لا يشترط في الخبر مسألة الديانة، فيمكن أن يكون يهوديا، يكون نصرانيا، مسلما، بوذيا، أيا كان بهذا الشرط، وهو إحالة العادة تواطؤهم على الكذب.
ويمثلون على هذا بمثال، فيقولون مثلا: إن صلب عيسى لا يمكن أن يعتبر متواترا، حتى وإن كان الذي يذكره من النصارى عدد غفير جدا يزيد على الملايين، فهذا لا يمكن أن يكون متواترا، لماذا؟
قالوا: لأن العادة لا تحيل تواطؤهم على الكذب، كيف؟
¥