فهذا -بلا شك- أيضا -يعني- الحقيقة يجعلنا نستأنس أكثر وأكثر، ونأمل -إن شاء الله- أن تكون هذه الصحوة المباركة، يعني: تخطت العراقيل التي يمكن أن تكون طبيعة في وجودها، وأدركت أن فلاحها وصلاحها واستقامتها مربوطة بهذا العلم، فالإنسان الذي يريد أن ينضم إلى صف الدعوة إلى الله -جل وعلا- والدعاة إلى الله، وإلى صف هذه الصحبة المباركة -لا شك- أنه يعتبر نفسه من الدعاة، كل بحسب استطاعته، لكن الإنسان إلى أي شيء يدعو؟ إذا لم يكن متزودا بزاد العلم فلربما دعا غيره إلى ضلال -والعياذ بالله- ولربما ألقي إليه سؤال محرج، فأفتى بغير علم، لربما دعا غيره، واستحسن أشياء تدخل في عداد البدعة، فالداعية إلى الله لا بد أن يكون على نور من ربه -جل وعلا- قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فلا بد أن يكون الإنسان على بصيرة بالأمر الذي يدعو إليه، أما أن يكون الإنسان مجرد عاطفة تشتعل، هذا لا يكفي.
العاطفة، نعم الإنسان بحاجة إليها، لكنها لا تكفي وحدها إذا لم يكن منضما إليها العلم الشرعي، الذي يجعل الإنسان كالذي يسير في ظلماء، ومعه مصباح في يده يبصر به طريقه، ولا شك أن الداعية في خضم هذه الموجات الجاهلية في هذا العصر الحديث من جميع أصنافها، هو يسير في وسط ظلمة، لكن هذه الظلمة تحتاج إلى مصباح يضيء له الطريق، وهذا المصباح هو العلم الشرعي، فالله الله أيها الأخوة.
يعني: أحث نفسي وأحثكم على ملازمة هذه الدروس، وعلى قصر هذه الأنفس، فإن الأنفس دائما تميل إلى البطالة، تميل إلى الدعة والراحة، ولو أن الواحد منا أطاع نفسه لما رفع رأسه من على الوسادة، أو لما ترك المجلس الفلاني الذي فيه القيل والقال، أو الدعابة الفلانية وما إلى ذلك، أو النزهة الفلانية واللعب الفلاني.
لو الواحد منا أطاع نفسه لما ترك هذه الأشياء، لكن هذه الأنفس ضلعة تحتاج إلى من يقصرها على طاعة الله -جل وعلا- وعلى تعلم العلم الشرعي الذي هو من أفضل العبادات.
بقي الإشارة إلى -يعني- السبب في المجيء هو أن الشيخ محمد الفراج -حفظه الله- طرأ له بعض الشغل الذي جعله يسافر خارج الرياض، وإن شاء الله سيقدم، ويواصل دروسه بإذن الله جل وعلا.
لكن درس "نخبة الفكر" يحتاج إلى مقدمة خفيفة، نستغل هذا الوقت في ذكر هذه المقدمة، وفي وقت الدرس -إن شاء الله- نبدأ بداية فعلية في شرح النخبة.
هذه المقدمة -أيها الأخوة- تتمثل .. أولا:
لماذا علم الحديث؟ لماذا نطلب علم الحديث؟ نطلبه -أولا- لأنه من أشرف العلوم؛ ولأن أهله هم الذين أصبحوا مصابيح الدجى، فلو نظرنا في الأئمة الأربعة: ثلاثة منهم ممن اشتهروا بالحديث، وإن كان الرابع، وهو أبو حنيفة -رحمه الله- لم يخلو من علم الحديث، لكنه لم يشتهر كشهرة الباقين، فالإمام مالك -رحمه الله- لو فتحتم كتابه الموطأ، وإذا به مليء بالأحاديث، وآراء الإمام مالك محصورة معدودة لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من تلك الأحاديث والآثار التي ساقها بسنده، إما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإما إلى تابعيه، ولو نظرنا إلى الشافعي -رحمه الله- وإذا به -أيضا- قمة في هذا الأمر، فكتابه الأم مليء بالأحاديث التي يسوقها بسنده.
كتابه الرسالة مليء بالأحاديث التي يسوقها بسنده، حتى إن بعض تلاميذه ذهب فألف مسندا للشافعي استخلصه من الأحاديث التي يرويها في كتبه، وأصبح الكتاب مشهورا بمسند الشافعي، وكذلك -أيضا- كتاب السنن له -رحمه الله تعالى- وأما الإمام أحمد، فهو قمة أهل الحديث لا يعرف أن الإمام أحمد -رحمه الله- كتب حرفا واحدا في الفقه، مع العلم أنه محسوب -أيضا- في عداد الفقهاء، لكنه كان ينهى تلاميذه عن كتابة الرأي، ويحثهم على كتابة الحديث. وفضل أهل الحديث لا ينكر، فهم الذين جهزوا الجهاز وأعدوا العدة لكل من أراد أن يخدم علوم الإسلام على شتى صنوفها.
فالمفسر لا يستغني عن الحديث، والفقيه لا يستغني عن الحديث، والأصولي لا يستغني عن الحديث، والمؤرخ لا يستغني عن الحديث، بل لا يستغنون عن مصطلح الحديث.
فإذا نظرت إلى المفسر بأي شيء سيفسر كتاب الله جل وعلا؟
¥