فإذن الآن تصوروا كيف ينتقل الحديث؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي، الصحابة بَلَّغُوا الحديث لمن بعدهم؛ امتثالًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: نَضَّرَ الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع التابعون هم الذين اتصلوا بالصحابة.
ذهب جيل الصحابة ماتوا أصبح الذي موجود على الوجود هم التابعين الذين تحملوا الحديث عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهم الذين احتلوا المكانة بعد ذلك، جلسوا كما جلس الصحابة وأخذوا ينشرون العلم في طبقة أتباع التابعين، والتابعي هو من سمع الصحابي.
والصحابي هو من سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباع التابعين هم الذين سمعوا من التابعين، أجيال يَخْلُف بعضها بعضًا.
أتباع التابعين سمعوا الحديث من التابعين، ويعني كان عندهم حرص على جمع أكبر عدد من الأحاديث ممكن، فني جيل التابعين بقي جيل أتباع التابعين بَلَّغُوا العلم لتبع الأتباع من بعدهم.
وهكذا ما زال الحديث يتنقل جيلًا بعد جيل، وكل واحد من أولئك الرواة يسمع الحديث من شيخه، فإما يحفظه حفظا في صدره، وإما يكتبه كتابا وكان الكثير يكتب وبخاصة في طبقة أتباع التابعين فمن بعدهم.
نعم كانت الكتابة موجودة في وقت الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لكنها قليلة لأسباب لا أرى أن أسهب في ذكرها لعلها تأتي إن شاء الله، ولما جاء التابعون انتشرت الكتابة فيهم أكثر مما كانت عند الصحابة، لكن لما جاء أتباع التابعين انتشرت الكتابة وأصبح التدوين معروفًا، فَقَلَّ من إمام في ذلك العصر إلا وصنَّف مصنفًا في الحديث، وأصبح جميع حديثه مكتوبًا عنده ومُدَوَّنًا.
ثم هكذا من جاء بعدهم ما زال التصنيف يأخذ شيئا من الإبداع والتفنن يتمثل هذا في ترتيبهم الحديث على مسانيد أو ترتيبه على أبواب الفقه، وانتقاء بعضهم الصحيح من الحديث، وترك ما لم يصح وهكذا، فإذا وضعنا في مخيلتنا طريقة التلقي هذه بل ما هو أبعد من هذا يعني: أفضل دائمًا لطالب العلم أن يكون كأنه مشرف على الناس كأنه يطلع عليهم من أعلى وينظر تلك الأجيال وهي يخلف بعضها بعضًا فهذا هو الامتداح الذي امتدح به ابنُ ناصر الدين الذهبيَّ -رحمه الله تعالى- والذهبي هو مؤرخ الإسلام يقول: "إنه كأنه مشرف على الناس يجرح فيهم، ويعدل ويذكر عنهم كل ما يتصل بشئونهم".
ولذلك علم الرجال والتاريخ هو من أهميات علم الحديث؛ لأن علم الحديث وثيق الصلة جدًا بعلم التاريخ، وبخاصة علم الرجال من علم التاريخ، فلو أن الواحد منا وضع في ذهنه هذا التصور كأنه ينظر إلى تلك الأمم، وكل جيل فيه فلان وفلان وفلان أو كل عصر فيه فلان وفلان وفلان من تلاميذ فلان ومن شيوخ فلان، وهكذا بهذه الصورة فهذا يسهل عليه تمامًا معرفة الحديث، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ كما سيأتي -إن شاء الله- معنا من شروط الحديث الصحيح.
أضرب لكم مثالًا على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حدث بحديث مثلًا إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات تلقى هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدد من الصحابة من جملتهم أبو هريرة.
توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء أبو هريرة؛ ليحدث التابعين فأخذ يحدث هذا الحديث. من جملة من تحمل هذا الحديث عن أبي هريرة الأعرج تلميذه، فتلقى الأعرج هذا الحديث عن أبي هريرة، لما توفي أبو هريرة حدث الأعرج بهذا الحديث تلاميذه من أتباع التابعين، فمن جملة من تحمل هذا الحديث عن الأعرج تلميذه أبو الزناد.
انقرض عصر الأعرج أو توفي الأعرج فبقي الناس محتاجين إلى علم أبي الزناد فحدثهم بالحديث الذي سمعه من الأعرج، والأعرج سمعه من أبي هريرة، وأبو هريرة سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدَّث الناس بهذا الحديث.
من جملة من أخذ هذا الحديث عن أبي الزناد الإمام مالك. فني عصر أبي الزناد وتوفي أبو الزناد بقي الناس محتاجين إلى الإمام مالك، بدأ الإمام مالك يبث الحديث في الناس وألَّف كتابه المشهور الموطأ، فمن جملة ما فيه هذا الحديث الذي تلقاه عن أبي الزناد من جملة من أخذ هذا الحديث عن الإمام مالك تلميذه عبد الله بن يوسف التنسي الذي هو شيخ البخاري توفي الإمام مالك.
¥