وقد خرج مسلم الحديث (972) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جابر، وأعقبه برواية ابن المبارك، وهو يشير بذلك إلى إعلال هذه الرواية، فإن من منهجه تقديم أصحِّ ما في الباب، ثم ما هو أدنى منه صحة أو ما فيه علة، كما بيّنه الشيخ د. حمزة المليباري في كتابه (عبقرية الإمام مسلم ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=17131) )، وهو أمر ظاهر مشهور.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 80، 349): سألت أبي عن حديث رواه ابن المبارك، عن ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن واثلة، عن أبي مرثد، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها».
قال أبي: "يرون أنّ ابن المبارك وهم في هذا الحديث، أدخل أبا إدريس الخولانيّ بين بسر بن عبيد الله وبين واثلة. ورواه عيسى بن يونس، وصدقة بن خالد، والوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، قال: سمعت واثلة يحدّث عن أبي مرثد الغنوي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -".
قال أبي: "بسر قد سمع من واثلة، وكثيرًا ما يحدّث بسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك فظنّ أنّ هذا ممّا روي عن أبي إدريس عن واثلة، وقد سمع هذا الحديث بسر من واثلة نفسه، لأنّ أهل الشّام أعرف بحديثهم".
وقال فيه (1/ 368): سألت أبي عن حديث رواه ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو محمد: وابن المبارك أدخل بينهما أبا إدريس فأيهما أصح عندك؟
فقال: "الصحيح ما يقوله أهل دمشق، ليس بينهما أبو إدريس، وقد وهم ابن المبارك في زيادته أبا إدريس، لأن بسر بن عبيد الله روى عن واثلة ولقيه، ولا أعلم أبا إدريس روى عن واثلة شيئًا، وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء".
وقال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (316): "وقال ابن المبارك عن بسر: سمعت أبا إدريس الخولاني عن واثلة، وقال عن الوليد أيضًا مثله، وأخطأ".
وقال ابن خزيمة في صحيحه (793): "أدخل ابن المبارك بين بسر بن عبيد الله وبين واثلة أبا إدريس الخولاني في هذا الخبر".
وقال الدارقطني في العلل (7/ 43): "يرويه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر واختلف عنه، فرواه الوليد بن مسلم وصدقة بن خالد وبكر بن يزيد الطويل ومحمد بن شعيب وأيوب بن سويد وغيرهم عن ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد، وخالفهم عبد الله بن المبارك وبشر بن بكر فروياه عن ابن جابر، عن بسر، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد، والمحفوظ ما قاله الوليد ومن تابعه عن ابن جابر لم يذكر أبا إدريس فيه ... ".
ونقل عنه المزي في تحفة الأشراف (8/ 329) قوله: "زاد ابن المبارك في إسناد هذا الحديث أبا إدريس الخولاني، ولا أحسبه إلا أدخل حديثاً في حديث، لأن وهيب بن خالد رواه عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بُسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وقال الحاكم في مستدركه (4974): "وقد تفرد به عبد الله بن المبارك بذكر أبي إدريس الخولاني فيه بين بسر بن عبيد الله وواثلة".
ونقل ابن حجر في إتحاف المهرة (13/ 65) عن الخطيب البغدادي أنه وهَّم ابن المبارك في ذلك، ولعله في كتابه المفقود (تمييز المزيد في متصل الأسانيد).
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 158): " ... كذا يقول ابن المبارك، ووهم فيه، فإن بسرًا سمعه من واثلة نفسه ليس فيه أبو إدريس، كذلك رواه عن ابن جابر الوليد بن مسلم والوليد بن يزيد وبشر بن بكر وبكر بن يزيد الطويل".
وهذا تتابع من الهيثم بن خارجة، وأحمد -إشارةً-، والبخاري، ومسلم -إشارةً-، وأبي حاتم، والترمذي، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة -إشارةً-، والدارقطني، والحاكم -إشارةً-، والخطيب، وابن عساكر= على تخطئة ابن المبارك في روايته هذه عن الشاميين، فخطؤه ثابت بلا إشكال فيها.
ثانيًا: قال البخاري في التاريخ الكبير (7/ 261): "مسلم بن زياد مولى أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - القرشي، صاحب خيل عمر بن عبد العزيز، يُعد في الشاميين، قال لنا إسحاق: نا بقية، قال: نا مسلم بن زياد، قال: «رأيت على أنس خفين أبيضين»، فقلت لبقية: إن ابن المبارك روى عنك عن محمد بن زياد، فجعل يعجب، وقال: "إنما هو مسلم بن زياد".
وهذا إنكار من الشيخ الشامي نفسِهِ على ابن المبارك في روايته عنه.
قال الدكتور عبد الكريم الوريكات في الوهم في روايات مختلفي الأمصار (ص261): "فاختلط هذان الراويان على ابن المبارك لعدم معرفته الدقيقة بأهل الشام وتمييزه المحكم بينهم، ولو كانا من أهل بلده لما وقع له هذا الوهم".
ثالثًا: في حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - في صفة الصلاة: رواه عتبة بن أبي حكيم وفليح بن سليمان عن عيسى بن عبد الله بن مالك، عن عباس بن سهل، عن أبي حميد.
لكن اختُلف على عتبة، فرواه ابن المبارك عنه عن عباس بن سهل، دون ذكر عيسى بن عبد الله (إتحاف المهرة: 14/ 84، تحفة الأشراف: 9/ 146، فتح الباري لابن رجب: 5/ 157)، ورواه إسماعيل بن عياش (شرح معاني الآثار: 1/ 196، 260) وبقية بن الوليد (سنن أبي داود: 735) عنه عن عيسى عن عباس.
والثاني عن عتبة أرجح، لأمرين:
الأول: أن الثقتين (إسماعيل وبقية) اتفقا على هذا الوجه، واتفاق هذين الثقتين يحدث لروايتهما قوة.
الثاني: أن عتبة شامي، والاثنان شاميّان، وابن المبارك ليس كذلك، واتفاق البلد قرينة للترجيح.
والله أعلم.
ملحوظة: استفدت المثالين الأولين من كتاب الشيخ د. عبد الكريم الوريكات (الأول ص506 - 508 أشار فيه إلى كلام البخاري وأبي حاتم والترمذي والدارقطني فقط، والثاني ص260، 261)، إلا أنه في المثال الأول نسب كلام البخاري للترمذي، والترمذي إنما نقله عن البخاري.
ومن كانت عنده إضافة فليضفها، أو فائدة فليفدها، أحسن الله إلى الجميع.
¥