وختاماً لا بد من إيضاح أن طبيعة البحوث المنشورة في المجلات العلمية المحكمة تقتضي التركيز و الاختصار، وهذا ما راعيته هنا مع علمي بأن المادة العلمية المتاحة في هذا البحث غزيرة جداً، أقول هذا معتذراً عن عدم الإكثار من إيراد الشواهد والأمثلة التطبيقية في كل مبحث بما يتناسب مع المتوفر لدي من نصوص كثيرة، وأملي أن أتوسع في معالجة هذا الموضوع بصورة أشمل وأكثر بسطاً في المستقبل إن شاء الله تعالى. واللهَ أسأل التوفيق والسداد على بلوغ المراد.
أولاً: لمحة حول عناية علماء الجرح والتعديل بنقد المتن في حكمهم على رواة الحديث.
تناول موضوع نقد المتن الحديثي جملة من الباحثين المحْدَثين، منهم مسفر بن غرم الله الدميني، وصلاح الدين بن أحمد الإدلبي، ومحمد طاهر الجوابي. ولكن المدقق يلحظ أن هذه الدراسات مع أهميتها وسدها لكثير من وجوه النقص، إلا أنها لم تخل من بعض أوجه القصور، وخاصة من حيث عدم الشمولية، وتغليب البعض منها جانب نقد المتن عند المدارس الفقهية على نقد المحدثين، كما ظهر في بعضها التكرار لما في كتب المصطلح من دون إضافات حقيقية، كما أن من أوجه القصور التي لاحظتها أن الأستاذين: الجوابي، والدميني أغفلا بيان جهود علماء الجرح والتعديل في نقد المتون، ويتجلى هذا بصورة واضحة في قول الدكتور الدميني: (لكن من يطالع كتب العلل والرجال لا يجد فيها نقداً لمتون الأحاديث).
والحق أن هذا الحكم من باحث متخصص كالدميني غير مقبول؛ لأن الشواهد والأدلة من كتب الجرح والتعديل تدحضه كما سيأتي إيضاحه في بحثنا هذا إن شاء الله تعالى، ومما يؤكد الحاجة لتجلية هذا الأمر أيضاً أني سألت الدكتور الجوابي شخصياً عن سبب خلو كتابه من نصوص الإمام البخاري في نقد المتن المذكورة في تاريخيه الكبير والصغير، فأجابني بما معناه: أنه لم يقف عليها.
ويحمد للدكتور الأدلبي أنه أفرد مبحثاً خاصاً لهذا الموضوع بعنوان: "اعتماد نقد المتن في دراسة الرجال." إلا أنه أغفل ذكر كثير من النصوص المهمة في هذا الأمر، كما أنه لم يتطرق للأسئلة المذكورة في بحثنا فضلاً عن محاولة الإجابة عنها، مما يجعل تناول الموضوع -في نظرنا- لا يزال ملحاً للغاية.
إن عناية علماء الجرح والتعديل بنقد المتن تتجلى من حيث الإجمال في النصوص العامة التي يشير فيها بعض كبار أئمة النقد الحديثي ضرورة النظر في متون الروايات، ويجعلون ذلك من أركان العملية النقدية وأسسها في علم الجرح والتعديل.
ومن ذلك مثلاً قول الإمام مسلم بن الحجاج في تعريفه للحديث المنكر: "وعلامة المنكر في حديث المحدث: إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا؛ خالفت روايته روايتهم، أولم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعمله فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن محرر ويحيى بن أبي أنيسة ... ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث ... ؛ لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة -وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره- فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم."
وهذا النص وإن لم يرد فيه ذكر المتن صراحة إلا إنه يندرج فيه ضرورة، فقد قال الإمام مسلم في مقدمة كتابه: "التمييز" وهو مع قصره من أكثر كتب علل الأحاديث المتداولة اليوم عناية بعلل المتون: "فاعلم أرشدك الله أن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث إذا هم اختلفوا فيه من جهتين: أحدهما: أن ينقل الناقل خبراً بإسناد، فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم ... وكنحو ما وصفت من هذه الجهة من خطأ الأسانيد، فموجود في
¥