هذا حكم جماعة من المحدثين العارفين الذين كانوا يخطئون، وقد فصَّلناهم في الكتاب [35] على أجناس ثلاثة:
1 - فمنهم من لا يُحتج بما انفرد من حديثه، ويقبل غير ذلك من روايته.
2 - ومنهم من يحتج بما وافق الثقات فقط من روايته.
3 - ومنهم من يُقبل ما لم يخالف الأثبات، ويحتج بما وافق الثقات) [36].
فمع وصفه لأبي هلال بكثرة الخطأ وسوء الحفظ، إلا أنه قبل ما تفرد به مما لم يخالف فيه الإثبات، ورد أخباره التي خالف فيها الثقات، واحتج بما وافق الثقات من حديثه، وقد بين ابن حبان مراده من قوله: "ما لم يخالف الأثبات" فقال: (ولا يتوهم متوهم أن ما لم يخالف الأثبات، هو ما وافق الثقات، لأن ما لم [37] يخالف الإثبات هو ما روى من الروايات التي لا أصول لها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أتى بزيادة اسم في الإسناد أو إسقاط مثله مما هو محتمل في الإسناد، وأما ما وافق الثقات فهو ما يروى عن شيخ سمع منه جماعة من الثقات، فإن أتى بالشيء على حسب ما أتوا به عن شيخه [احتج به]) [38] [39].
وقد سبق أن ذكرنا أن ابن حبان ممن يدخل "الحسن" في الصحيح ولا يفرق بينهما، وقد نقلنا عنه هناك بعض النصوص التي تدل على أنه يقبل الحديث من الراوي الكثير الخطأ إذا لم يعلم خطؤه [40].
وممن يرى ذلك أيضاً الحافظ أبو عبدالله الحاكم، وهو ممن لا يفرق بين الحسن لذاته والصحيح [41] أيضاً، وقد أكثر في مستدركه من تصحيح أحاديث تفرد بها رواة هم في حكم من يحسن لهم المتأخرون كأحمد بن جناب المصيصي الذي وصفه ابن حجر بأنه: (صدوق)، وقال الحاكم في حديثه: (هذا حديث صحيح الإسناد، تفرد به أحمد بن جناب المصيصي، وهو شرط من شروطنا في هذا الكتاب أنا نخرج أفراد الثقات إذا لم نجد لها علة) [42].
وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح، تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين [43] وهو صدوق، ولم يخرجاه، وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع عن ابن عمر) [44].
وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، لتفرد عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب [45]، ولما نسب إليه من سوء الحفظ، وهو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون) [46].
ومفهوم الثقة عنده واسع، يدخل فيه حتى الصدوق الذي يهم كما هو ظاهر من هذا النص، ولما عُرف أنه لا يفرق بين الحسن والصحيح، وهو يرى أن تفرد "الثقة" يُسمى شاذاً ولكن لا يمنع التصحيح [47]، ولهذا وجدنا في مستدركه عدة نصوص يقول فيها مثلاً: (صحيح الإسناد على شرطهما، وهو غريب شاذ) [48]، و (صحيح الإسناد ... وهو شاذ بمرة) [49]، و (شاذ صحيح الإسناد) [50]، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ... ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ، فلينظر في الكتابين - يعني الصحيحين - ليجد من المتون الشاذة التي ليس لها إلا إسناد واحد ما يتعجب منه، ثم ليقس هذا عليها) [51].
فمجمل النصوص السابقة تؤكد أن الحاكم يحتج بتفرد الصدوق إذا لم يخالف مخالفة يرى هو أنها ضارة، وقد مر معنا قبل قليل أنه قبل تفرد ابن أبي رزين مع أنه خولف.
وممن يرى أن تفرد الصدوق مقبول أيضاً الحافظ ابن القطان الفاسي، فقد ذكر قول الحافظ عبدالحق الإشبيلي في ثابت بن عجلان "لا يحتج به"، ثم رد عليه بقوله: (وقوله في ثابت بن عجلان لا يحتج به، قول لم يقله غيره فيما أعلم، ونهاية ما قال فيه العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وهذا من العقيلي تحامل عليه، فإنه يُمس بهذا من لا يُعرف بالثقة، فأما من عُرِف بها، فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه) [52].
ثم نقل قول بعض النقاد فيه: لا بأس به، ثم قال: (والحق أن من عُرف بالطلب، وأخذ الناس عنه، ونقل الناقلون حُسن سيرته، بتفصيل أو بإجمال بلفظ من الألفاظ المصطلح عليها، مقبول الرواية) [53]، فدل هذا أنه عنده دون الثقة المتفق عليه ومع ذلك قَبِل تفرده.
وقد علق الحافظ ابن حجر على كلام ابن القطان السابق بقوله: (صَدَق، فإن مثل هذا لا يضره إلا مخالفته الثقات لا غير، فيكون حينئذٍ شاذاً) [54]، وقد وصف ثابت بن عجلان بأنه: (صدوق) [55].
¥