وهذا رأي جمهور علماء الحديث من المتأخرين ممن يرون أن الحسن لذاته حجة كما قال الصنعاني: (الحسن لذاته ... لم يعتبروا في رسمه إلا خفة ضبط رواته كما عرفت، فإنهم قالوا: "فإن خف الضبط فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يصح"، فلم يجعلوا متابعة غيره له إلا شرطاً لصحته لا لحسنه، وأما الحسن لغيره فقد عرفناك مراراً أنه لا يصير حسناً إلا بمتابعة غيره) [56].
وهكذا قال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة: (وإن لم يكن هناك ما يخالف حديث الصدوق، وانفرد هو بحديث الباب، قُبِل حديثه إذ لا معارض له أقوى منه) [57].
وذهب التهانوي إلى "أن تفرد "المختلف فيه" حجة في درجة حجية الحسن على أصل مذهب الحنفية؛ لأن التعديل مقدم على الجرح إلا إذا كان مفسراً، فإذا اختلف في التوثيق والتضعيف ولم يكن الجرح مفسراً، فالراوي ثقة عند الحنفية وآخرين غيرهم، فيقبل تفرده إذا لم يخالف الجماعة مخالفةً تستلزم ردَّ ما رواه" [58].
وفيما أعرف فإن أغلبية المعاصرين ممن لهم كتابات منشورة على هذا الرأي.
وممن يميلون أحياناً لهذا الرأي من كبار أئمة النقد المتقدمين: الإمام البخاري، إلا أني لم أجد ما يدل صراحة على أنه يعمم ذلك، وإنما وقفت على بعض النصوص القليلة التي تدل على أنه لا يتشدد في بعض تفردات من كانوا دون مرتبة الثقة، ولهذا أخَّرتُ الكلام عنه في هذا المبحث لوجود شكوك لدي في أنه يقبل بصفة مطلقة تفرد الصدوق ومن في حكمه.
فيقول الحافظ ابن حجر في فُليح بن سليمان: (صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه، وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده) [59]، وبنحو هذا قال الذهبي، فقد قال: (قد اعتمد أبو عبدالله البخاري فليحاً في غير ما حديث ... ) [60] يريد أنه لم يُتابع عليها.
وقد حَسَّن البخاري تفرد عامر بن شقيق بحديث تخليل رسول الله صلى الله عليه وسلم للحيته [61] مع أن عامر بن شقيق متكلم فيه، فقد قال له الترمذي: (إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن) [62].
وقد قوى أمر محمد بن إسحاق ودافع عنه دفاعاً قوياً نافياً عنه أسباب الضعف [63]، واحتج بحديثه الذي رواه عن أبي هريرة موقوفاً في أن مدرك الركوع إذا لم يقرأ الفاتحة فلا يُعد مدركاً للركعة [64]، مع علمه بكثرة تفرداته فقد قال: (محمد ابن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها لا يُشاركه فيها أحد) [65]، ولم يستنكرها ولم يتكلم فيه بسببها، مع علمه بأنه قد تُكلم فيه.
وإذا استحضرنا ما ذكرناه أول هذا المبحث عن عدد الرواة الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه وأطلق عليهم ابن حجر وصف "الصدوق"، واستحضرنا أيضاً قول الحاكم المتقدم آنفاً عن كثرة المتون التي ليس لها إلا إسناد واحد في الصحيحين، وقول الحافظ ابن حجر [66] أن في الصحيحين قدر مائتي حديث من الغرائب الأفراد، وقول الحافظ ابن رجب [67] أن تصرف البخاري ومسلم يدل على أن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر خلاف مذهب يحيى ابن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فيحتمل أن يكون في صحيح البخاري أحاديث تفرد بها بعض الصدوقين، وإن كان ذلك كما يظهر من "هدي الساري" نادراً جداً [68] وقد حرص الحافظ ابن حجر على إيراد المتابعات والشواهد ليرفع التفرد عن بعض المتكلم فيهم ممن احتج بهم البخاري، سواء في الأصول أو في الشواهد والمتابعات والمعلقات.
والذي يحملني على عدم الجزم بأن ذلك اختيار البخاري رحمه الله، لأنني وقفت على عدة نصوص تدل على أنه لم يقبل بعض تفردات الثقات والصدوقين ولو لم يخالفوا، فمثلاً وجدته لا يقبل حديثاً تفرد به شبابة بن سوَّار وهو ثقة حافظ [69] عن شعبة بن الحجاج مع أنه لم يُخالف، ومع أن المتن محفوظ من طرق أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [70]، ومع أن علي بن المديني لم يرده وقال: (لا ينكر لرجل سمع من رجل ألفاً وألفين أن يجيء بحديث غريب) [71].
كما وجدت البخاري رد حديثاً تفرد به حفص بن غياث عن عبيدالله بن عمر العمري وقال: (هذا حديث فيه نظر) [72]. مع أنه احتج بحفص في صحيحه في مواضع عديدة [73]، كما أن حفصاً لم يُخالف، ولهذا فقد صحح حديثه الترمذي [74]، وابن حبان [75]، فلم يقبل البخاري حديثه بسبب التفرد [76] مع كونه ثقة عنده.
¥