وعلى الرغم من امتلاء كتب علوم الحديث بالكثير من المسائل التي بحثها العلماء، وأكثروا فيها الآراء والمناقشات، إلا أن كثيراً من هذه المسائل لم يُحرَّر، فالأقوال فيها مبعثرة، والأنظار متباينة، لم تُجمع مع بعضها، ولم تُنَسَّق فيما بينها، ولم تُحصَرْ جوانب الخلاف والاتفاق فيما بينها.
إن جَمْعَ هذه الأقوال، والتأليفَ بينها، ومعرفةَ نقاط تباينها واتفاقها، ومحلِ الخلاف فيها، ومن ثَمَّ التوصل إلى ما هو الراجح، وما هو المعمول به، ومقارنته مع التطبيق العملي له؛ هذا بحدِّ ذاته مجالٌ واسعٌ رحبٌ، يحتاج إلى صبر دؤوب، وبصيرة نافذة، وجهود كثيرة.
فضلاً عما يحتاجه هذا العلم من سبك فروعه، وصياغة مسائله في إطار نظريات متكاملة متناسقة، لا تناقض بينها ولا تعارض، وربطها ببقية العلوم الشرعية كالأصول والفقه والتفسير.
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لهذا العلم أئمة كباراً، ورجالاً أفذاذاً، سخَّروا حياتهم ونذروا نفوسهم لخدمة هذا الدين، ووضعوا لنا الكتب العظيمة والمؤلفات الكثيرة التي تحفظ العلم من التحريف والتشويه.
فإن كان لنا في هذا العلم شيء فمن أَثَارةِ أولئك الأعلام، وإن بقي لنا من الرأي بقيةٌ فإنما هو رَجْعُ فضلهم، وأثر أياديهم البيضاء على هذه الأمة.
أهمية البحث:
تأتي أهمية هذا البحث من خلال الأمور التالية:
أولاً: جوهرية قضية التفرد في علوم الحديث ومباحثه، فهذه المسألة تحتل حيِّزاً كبيراً من نظر المحدثين، ولها أثر ظاهرٌ في العديد من المباحث الحساسة في هذا العلم، فالتفرد يدخل في التصحيح والتضعيف دخولاً بيِّناً، ويأخذ دوراً أساساً في قبول الرواية أو ردِّها.
كما أن للتفرُّد صلةً قويةً بعلم العلل، ويدخل في كثير من أنواع العلل أو يكشف عنها.
والتفرد أيضاً من الملَاحِظِ المهمةِ التي يأخذها نقاد الحديث بعين الاعتبار عند حكمهم على راوٍ ما بتوثيق أو تضعيف، فيقارنون رواياته بروايات غيره - وخاصة الثقات – فإن كَثُرَتِ الرواياتُ التي يتفرد بها عُدَّ ذلك سبباً للطعن فيه وجرحه, وإن كانت تفرداتُه قليلةً كان ذلك أمارةً على توثيقه وتعديله.
قيل لشعبة أمير المؤمنين في الحديث: متى يُتْرَك حديثُ الرجل؟ قال: «إذا حدَّثَ عن المعروفين ما لا يُعرف، وإذا أكثر الغلط، وإذا اتُّهم بالكذب، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يَتهم نفسَه فيتركه؛ طُرِحَ حديثه، وما كان غيرَ ذلك فارووا عنه» ().
ثانياً: تشكِّلُ مسألة التفرد في الرواية عصباً دقيقاً يتصل بشكل مباشر بعدد من أنواع ومباحث علوم الحديث - التي تعد من مباحثه الأصيلة والأساسية – كـ (الحديث الغريب)، و (زيادة الثقة)، و (الحديث الشاذ)، و (الحديث المنكر)، والتي يربط بينها جميعاً تفرد الراوي إما بأصل الحديث أو بجزء منه.
ثالثاً: إبراز الترابط بين أنواع علوم الحديث، وإظهار التكامل فيما بينها، فمنهج التصنيف التقليدي القائم على إفراد كل نوعٍ حديثي بباب خاص، وعنوان مستقل قد يوهم انفصاماً بينها، ولا يظهر ترابطها واتصالها، كما أن بعض المسائل يتفرق الكلام فيها بين عدة أنواع.
فصياغة هذه الأنواع في إطار نظرية واحدة متكاملة ومتناسقة أمرٌ مطلوبٌ، حيث تُظهِرُ الوحدة الموضوعية في علوم الحديث، وتجمعُ المسائلَ المشتَّتَة، والفروعَ المبعثرة، وتربطُها بأصولها، وما يكملها أو يتصل بها.
رابعاً: يكشف البحث منهجية علماء الحديث، ويظهر عُمقَ نظرهم، ودِقَّة أحكامِهم، وصَوابيَّة القواعد والأسس التي رسموها وساروا عليها، فبينما يُظَنُّ أن لكل محدِّثٍ ناقدٍ منهجَه الخاصَّ واصطلاحَه المتميِّز، يُظهِرُ هذا البحثُ أنَّ المنهج الحديثي النقدي واحدٌ؛ وإن اختلفت العبارات، أو تباينت الألفاظ، وذلك في حدود بحثي على الأقل.
الجديد الذي يقدمه البحث:
يمكن القول بأن هذا البحث فيه من الجِدَّةِ ما يلي:
1ـ دراسة مسألة التفرد بكل أبعادها وتفصيلاتها، وإلقاء الضوء على أهميتها في عمل المحدثين عند الحكم على الرواة أو نقد المرويات، مع بيان ما يرتبط بها من أنواع علوم الحديث، التي تتلاقى مع بعضها مشكلةً وحدةً موضوعيةً متناسقةً في التقسيم والتفريع والأحكام.
¥