الوجه الخامس: أن للمحدثين - خاصة منهم أهل العلل - طرقا خاصة يجمعون بها روايات الحديث الواحد، فيظهر من جمعها إن وقع في نص الحديث تصرف من الرواة أم لا. ثم إن كان الحديث مما اختلفت فيه ألفاظ رواته، من غير سبيل للترجيح بينها، فالمتعينُ تنكبُه في مبحثنا هذا.
الوجه السادس: أن الشك المتطرق إلى بعض الأحاديث بسبب من احتمال الرواية بالمعنى، لا ينفي صحة الأصول العامة المأخوذة بطريق الاستفاضة والتواتر، من مجموع الأحاديث النبوية.
وفي الجملة، فإن هذه المسألة – وإن صح عدّها سببا في تأخر بحث البلاغة النبوية مقارنة ببلاغة القرآن الكريم - لا ينبغي أن تصرف الباحث في الموضوع عن مراده.
·خطوة نحو التأصيل:
ليس المراد في هذا البحث أن يجمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صعيد واحد، ويستخرج ما فيه من أفانين البلاغة، وضروب الفصاحة. فذاك مقصد لا مطمع في إدراك عشر معشاره. وقد قارب بعضَه جمع من شراح الحديث، فأجادوا وأحسنوا.
وإنما المراد وضع بعض الأصول العامة، والضوابط الإجمالية، التي تعين على فهم هذا الكلام البليغ، وتذوق حلاوته. وأعظِم به من مقصد جليل!
وقد مضى آنفا ذكر بعض ألوان التأصيل، ويأتي من ذلك فنون أخرى – بإذنه تعالى.
برهان البلاغة النبوية:
وإذ وصل بنا الكلام إلى هذا الموضع، فلرُب متكئ على أريكته، منجدل في طينة غفلته، يحك عينيه ليطرد عنهما سمادير الوسَن، ثم يقول: قد حدثتنا طويلا عن هذه البلاغة النبوية، حتى لكأنها عندك من المسلمات؛ أفَتُرانا نسلم برأيك لمحض قولك؟
وجوابي عن هذا – بعد أن أردد مع أبي الطيب قوله المأثور:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
من أوجه تأتيك فيما يلي:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن نفسه بذلك، فقال (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي)) [11] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn11)(.
قَالَ الزهري) [12] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn12)(: ( وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ).
وهل هذه البراعة في الجمع، والإعجاز في الإيجاز، وقلة اللفظ مع كثرة المعاني، إلا قمة ما تكون عليه بلاغة الكلام؟
ولست أستدل في هذا المقام، ببعض الأحاديث التي يذكرها المتكلمون في هذا الباب، مع كونها لا تصح من جهة الإسناد.
ومن ذلك:
-ما جاء عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دجن: (كيف ترون بواسقها؟). قالوا: ما أحسنها، وأشد تزاحمها. قال: (كيف ترون قواعدها؟). قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: (كيف ترون جونها؟). قالوا: ما أحسنه، وأشد سواده. قال: (كيف ترون رحاها استدارت؟). قالوا: نعم، ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: (كيف ترون برقها؟، أخفوا، أو وميضا؟ أم يشق شقا؟). قالوا: يا رسول الله، بل يشق شقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحيا). فقال له رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق لي، وإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين؟)) [13] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn13)(.
- ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش)) [14] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn14)(.
- وما جاء من حديث أبي سعيد مرفوعا، قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأتُ في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحنُ)) [15] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn15)(.
- ومثله ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بعض خطباء الوفود بكلام عذب فصيح، فقال له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله نحن وأنت بنو أب واحد ونشأنا في بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما يفهم أكثره. فقال: (إن الله عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر)) [16] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn16)(.
ومن هذه البابة أحاديث أخرى تركت ذكرها اختصارا.
¥