والوجه الثاني: أن الصحابة الذين وصفوا منطقه عليه الصلاة والسلام، شهدوا له – وهم سادات الفصحاء، ومن معدن البلاغة والأدب – بتقدمه في هذا المضمار، بحيث لا يلحق غباره، ولا يدرك شأوُه.
من ذلك ما أخرجه النسائي والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسرد الكلام كسردكم هذا، كان كلامه فصلا يبينه يحفظه كل من سمعه).
وقد جاء بسند ضعيف من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، طويل الفكرة، ليس له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح كلامه ويختمه بأشداقه. يتكلم بجوامع الكلم، فضل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة، وإن دقت، لا يذم منها شيئا، لا يذم ذواقا ولا يمدحه)) [17] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn17)(.
والوجه الثالث: أن أكابر البلغاء أذعنوا للفصاحة النبوية، وجعلوها تاجا على رأس العربية، يشع نور لآلئها على أرجاء الكلام العربي كله.
بل تخذوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم معينا ثرا يمتحون منه في مكاتباتهم ومخاطباتهم.
والأمر في شرح هذا وتفصيله يطول جدا.
فلأجتزئ بذكر كلام الأديب البليغ، مقدم أهل الصنعة، عمرو بن بحر الجاحظ في (البيان والتبيين)) [18] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn18)(، حين يقول:
(وأنا ذاكرٌ بعد هذا فَنّاً آخرَ من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: قل يا محمد: "وما أنا مِنَ المتَكلِّفين "، فكيف وقد عابَ التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلا عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق. وهو الكلامُ الذي ألقَى اللّه عليه المحبّةَ، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته. لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلِم القِصار ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصِّدق ولا يطلب الفَلْج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل الموارَبة، ولا يهمِز ولا يَلْمِز، ولا يُبْطِيءُ ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب ولا يَحْصَر، ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعاً، ولا أقصَدَ لفظاً، ولا أعدلَ وزناً، ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرَم مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوَى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً)) [19] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn19)(.
ثم قال:
(قال محمَّد بن سلام: قال يونس بن حبيب: (ما جاءنا عن أحدٍ من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم).
.. ولعلّ بعضَ من يتَّسِع في العلم، ولم يعرفْ مقاديرَ الكَلِم، يظُنّ أنّا قد تكلّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلُغه قدْرُه، كَلاَّ والذي حَرَّمَ التزيُّدَ على العلماء، وقبَّح التكلّف عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء، لا يظنّ هذا إلا من ضلَّ سعيُه)) [20] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn20)(.
والوجه الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامه الله تعالى في موضع البيان لكتاب الله عز وجل، وذلك إنما يناسب أعلى درجات البلاغة. قال الحليمي رحمه الله في الكلام على بيان النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته: (ولو لم يكن على ذلك دلالة سوى أن الله نصبه منصب البيان لكتابه، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لكان كافيا، فإنه لو لم يكن آتاه البيان، ولم يرقه فيه إلى أعلى الدرجات، لما رضيه لتبيين كتابه، والكشف عن معاني خطابه)) [21] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn21)(.
¥