زيادة على أنه رحمه الله تعالى لم يمنع من الاجتهاد في علم الفقه كما درج على ذلك أكثر المتأخرين، بل قال لما سئل عن ذلك:» ودرجة الاجتهاد المطلق تحصل بتمكنه من تعرُّف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالا من غير تقليد «(10).
ـ[محمد حاج عيسى]ــــــــ[13 - 08 - 07, 06:31 م]ـ
المطلب الثاني: مجال الاجتهاد ومداخله
الفرع الأول: مجال الاجتهاد في التصحيح والتعليل
بعد أن تقرر أن الاجتهاد في الحديث أمر مشروع بالاتفاق، نرجع إلى بيان مجاله ومداخله، فإنه كما هو معلوم في الفقه والأصول أنه ليست كل مسائل العلوم وجزئياتها موضوعا للاجتهاد، وأن الصحيح أن مجال الاجتهاد في الفقه وغيره بالنسبة لمن تأخر عن عهد السلف هو المسائل المختلف فيها دون المجمع عليها، والأمر لا يختلف كثيرا عنه في ميدان التصحيح والتعليل.
الفقرة الأولى: نص الحافظ البيهقي
ومن أقدم من نص على هذا المعنى الحافظ البيهقي إذ قال:» ومما يجب معرفته في هذا الباب أن تعلم أن الأخبار الخاصة (يعني الآحاد) المروية على ثلاثة أنواع:
نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، وهذا على ضربين … (يقصد الأحاديث المشهورة، والغرائب الصحاح).
أما النوع الثاني من الأخبار فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مخرجها، وهذا النوع على ضربين … (يقصد رواية الكذاب، ورواية سيئ الحفظ).
وأما النوع الثالث من الأحاديث فهو أحاديث اختلف أهل العلم بالحديث في ثبوته، فمنهم من يضعفه بجرح ظهر له من بعض رواته خفي ذلك على غيره، أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره، وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذي يجرحه به لا يراه غيره جرحا، أو وقف على انقطاعه أو انقطاع بعض ألفاظه، أو إدراج بعض رواته قول رواته في متنه أو دخول إسناد حديث في حديث خفي ذلك على غيره.
فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا في اختلافهم ويجتهدوا في معرفة معانيهم في القبول والرد ثم يختاروا من أقوالهم أصحها، وبالله التوفيق «. (11)
الفقرة الثانية: نص شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن خبر الواحد:» فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي لأن الإجماع معصوم فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، فكذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب، ولا التكذيب بصدق «. (12)
فالأمر متعلق بمواطن الاختلاف والاتفاق، ولا يمكن لمن تأخر عن عصر السلف أن يأتي بشيء يخالفه كل من تقدمه سواء كان الأمر نظريا أو تطبيقيا، وسواء كان في الفقه والاعتقاد أو الأصول والحديث، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:» ونزاع المتأخرين لا يمكن القول به لأن كثيرا منه تقدم الإجماع على خلافه، كما دلت النصوص على خلافه، ومخالفة إجماع السلف خطأ قطعا، وأيضا لم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، فلابد من أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه، وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن، وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين، وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش، وهذا في جميع علوم الدين «. (13)
ـ[محمد حاج عيسى]ــــــــ[13 - 08 - 07, 06:34 م]ـ
الفرع الثاني: مداخل الاجتهاد في التصحيح والتعليل
ومداخل الاجتهاد قد أشار إليها الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في كلامه، وهي راجعة إلى شروط الصحة عند أهل الحديث، وإلى قواعد الجرح والتعديل.
1 - الاتصال
من أسباب اختلاف المحدثين اختلافهم في اتصال سند الحديث، ومرجع الاختلاف إما أن يرجع إلى أمر نظري كلي أو تطبيقي جزئي، أما النظري فمثل الاختلاف في حكم الإسناد المعنعن هل يكتفي فيه بالمعاصرة أم لابد من ثبوت اللقاء والتصريح بالسماع، وكاختلافهم في حكم رواية المدلس هل يتوقف فيها مطلقا أم يقتصر التوقف على من كان مكثرا منه.
وأما التطبيقي فهو اختلافهم في أعيان الرواة هل لقي فلان علانا أم لا؟ وفلان هل هو مدلس أم لا؟ وهل هو مكثر منه أم لا؟
2 - الجرح والتعديل
ومن أسباب الاختلاف أيضا الخلاف في الرواة جرحا وتعديلا، ومن ذلك ما يرجع إلى القواعد كالاختلاف في بعض أسباب الجرح كالبدعة والمروءة، وحكم رواية المجهول وبماذا ترتفع الجهالة، ومنها ما يرجع إلى التطبيق ليس إلا، أعني الاختلاف في أعيان الرواة، هل فلان ثقة أم ضعيف؟ وإذا كان ضعيفا، فهل ضعفه شديد أم لا؟
3 - التعليل
ومن أسباب اختلاف الحكم على الحديث اختلاف الرواة في الحديث في سنده أو متنه، وقد يكون الاختلاف راجعا إلى القواعد كالاختلاف في حكم زيادة الثقة، ومنه ما يرجع إلى واقع الرواية من حيث القرائن المحتفة بها، والأسانيد الموقوف عليها، وكل ما من شأنه أن يؤثر في الترجيح بين الرواة المختلفين.
4 - الإنكار
والمقصود هنا التعليل بالتفرد أو الشذوذ الذي لا مخالفة فيه كما وصفه الحاكم رحمه الله تعالى، وهنا يوجد خلاف في اعتماد أصل هذا التعليل خاصة من طرف من مال إلى منهج الفقهاء والأصوليين، وأكثر اختلاف النقاد في هذا الباب مرجعه إلى منزلة الراوي عنده، وإلى الوقوف على المتابعات من عدم ذلك، وإلى بعض القرائن الدقيقة التي يختلف في اعتبارها.
تذكير:
من مداخل الاجتهاد جمع الطرق الذي له فوائد قد سبق ذكرها منها: رفع النكارة عن بعض الأحاديث، ومنها تقوية أحاديث الضعفاء والمختلطين والمدلسين، ومنها تبين العلل التي كانت خفية والتمكن من الترجيح بين روايات المختلفين، فليست فائدة جمع الطرق تحسين الأحاديث وتقويتها فحسب كما قد يظن بعض المبتدئين.
¥