ومن المفسرين ممن هم بعد أولئك: إبراهيم النخعي، وهو جليل القدر، لم يسمع من أحدٍ من الصحابة، وإنما عدَّه بعض الأئمة من جملة التابعين؛ لرؤيته عائشة رضي الله عنها، وله في التفسير يدٌ، وخاصةً في تفسير آيات الأحكام، وهو أكثر التابعين في ذلك على الإطلاق.
راوية حديثه مُغيرة بن مِقْسَم فقد روى نحو شطرِ تفسيرِه، وروى كذلك منصور بن المعتمر شيئاً ليس بالقليل عنه.
وتفسيره المنقول عن ابن مسعود صحيحٌ، إذا صح إليه السند، وغالبه صحيح، وأما تفسيره من تلقاء نفسه فيما يوافق اللسان العربي، فهو دون أقرانه مرتبةً، وقد كان يلحَنُ في كلامه.
ومن المفسرين: السُّدي الكبير: وتفسيره جَمْعٌ، كما جمع ابن إسحاق السيرة، وهو ثقة في نفسه، إلا أنه لم يسمع من ابن عباس ولا ابن مسعود.
وتقدم الكلام على من روى عنه وأسانيده إلى ابن عباس وابن مسعود.
ومنهم: الضَّحاك بن مُزاحِم الهلالي:
وهو من كبار مفسري التابعين، وجُل تفسيره من طريق جُويبر بن سعيد عنه، وجويبر ضعيف جداً، لكن روايته من كتاب، وحديث الضحاك عن ابن عباس مرسل، أخذه من سعيد بن جبير، وتفسير الضحاك - ما لم يخالف - مقبول حسن.
ويروي عبيدالله بن سليمان عن الضحاك التفسير أيضاً، وهو ضعيف أيضاً.
ومنهم: مقاتل بن سليمان:
وهو في نفسه ضعيف واه، وقد أدرك الكبار من التابعين، وهو فصيح اللسان سيء المذهب، يؤخذ من تفسيره ما وافق اللسان العربي، وله شذوذات في التفسير كثيرة.
وروى تفسير مقاتل هذا عنه أبو عِصْمَة نُوحُ ابن أبي مريم الجامع، وقد نسبوه إلى الكذب، ورواه أيضاً عن مقاتل هذيلُ بن حبيب، وهو ضعيف لكنه أصلح حالاً من أبي عصمة.
ومنهم: مقاتل بن حيان:
من طريق محمد بن مزاحم عن بكير بن معروف عنه، ومقاتل هذا صدوق.
وأبو صالح باذام: لا يعتد بقوله في التفسير، وليس له معرفة فيه، وكان مجاهدٌ ينهى عن تفسيره، وزجره الشعبي حينما فسَّر القرآن؛ إذ كيف يفسره وهو لا يحفظه.
وهذه التفاسير: تدور عليها أسانيد كتب التفسير المسندة، ولم أُرد الاستقصاءَ والاستيعابَ، وإنما قصدتُ الكلام على أصول التفسير عن الصحابة والتابعين، وبيان منهج النقاد في الحكم على هذه الأسانيد، ومراتب تلك الأسانيد من جهة القوة والضعف، وتفاوتها في وجوه التفسير بتفاوت أصحابها في الرُّسوخ في العلم، ومعرفة لغة العرب.
وتلك الأسانيد منثورةٌ في كتب التفسير المسنَدَة، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه " أسباب النزول": " ومدار أسانيد التفسير عن الصحابة وعن التابعين تُوجَد في الكتب الأربعة: ابن جرير الطبري وعبد بن حُميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ". قال: " وقليلٌ ما يُشذُّ عنها ". وهذا صحيح؛ فمن تأمل الكتب المصنفة في الأسانيد، وجد أنه لا يكاد يوجد من ألفاظ التفسير مما لا يوجد في هذه الكتب، وإن وقع التغاير في بعض الألفاظ قد يكون دخله بعض الغلط والتصحيف، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله عن أمثال صُحف التفسير: «وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيَّما في ذلك العصر، لم يكن حدث في الخطِّ بعد شَكْلٌ ولا نَقْطٌ".
وقد يُروى بعض التفسير عن عبد الله بن عباس، أو مجاهد بن جبر، بلفظٍ مشابهٍ رسماً مغايرٍ معنى، وهذا بسبب عدم نقط الكتب، فسبق لفظ في ذهن الناسخ على لفظ؛ وينبغي أن يتنبَّه لأمثال هذه المسائل.
وكتب التفسير التي قد اعتنت بالأسانيد كثيرة، كـ: " تفسير ابن جرير الطبري "، و" عبد بن حميد "، و"تفسير ابن أبي حاتم" و"ابن أبي المنذر"، و"تفسير الإمام أحمد" و" تفسير أسحاق ابن راهوية "، و" آدم بن أبي إياس "، و" تفسير ابن شاهين"، و"تفسير ابن مردويه" و"تفسير سعيد بن منصور" و"تفسير عبدالرزاق" و" تفسير ابن ماجة " وغيرهم من الأئمة، وثمة عشرات التفاسير المسندة؛ تقرُب من خمسين تفسيرًا، أكثرُها مفقود.
مسائل مهمة
وقبل الختام هنا مسائل عدة يحتاج إليها، وهي:
الأولى: هل للإنسان أن يفسر القرآن على وجه لم يُسبق إليه أم لا؟
¥