فَأَمَّا ما كان منها عن قَوْمٍ هُمْ عِنْدَ أَهْلِ الحديث مُتَّهَمُونَ - أو عِنْدَ الْأَكْثَرِ منهم - فَلَسْنَا نَتَشَاغَلُ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِم ... ؛ وَكَذَلِكَ من الْغَالِبُ على حَدِيثِهِ الْمُنْكَرُ أو الْغَلَطُ ... ؛ قد شَرَحْنَا من مَذْهَبِ الحديث وَأَهْلِهِ بَعْضَ ما يَتَوَجَّهُ بِهِ من أَرَادَ سَبِيلَ الْقَوْمِ وَوُفِّقَ لها؛ وَسَنَزِيدُ - إن شَاءَ الله تَعَالَى - شَرْحًا وَإِيضَاحًا في مَوَاضِعَ من الْكِتَابِ، عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إذا أَتَيْنَا عليها في الأَمَاكِنِ التي يَلِيقُ بها الشَّرْحُ وَالإِيضَاحُ، إن شَاءَ الله تَعَالَى).
وعبّر الحاكم عن فهمه لكلام مسلم هذا بقوله في جزئه (المدخل في أصول الحديث) (2): (وقد أراد مسلم بن الحجاج أن يخرج الصحيح على ثلاثة أقسام في الرواة، فلما فرغ من القسم الأول أدركته المنية وهو في حدّ الكهولة رحمه الله).
لكن قال القاضي عياض في (إكمال المُعْلِم): (هذا الذي تأوّله أبو عبدالله الحاكم على مسلم من اخترام المنية له قبل استيفاء غرضه: مما قبِله الشيوخ وتابعه عليه الناس، في أنه لم يُكمل غرضه إلا من الطبقة الأولى، ولا أدخلَ في تأليفه سواها) (3).
ولما نقَل ابن الصلاح – وتبعه النووي (4) – قول الحاكم هذا نسَبا مثله إلى صاحبه البيهقي، فكأنه قاله في القسم المفقود من كتابه (المدخل)، والله أعلم.
ثم قال القاضي عياض مبيناً رأيه في كلام الحاكم، وفهْمَه لكلام مسلم (5): (وأنا اقول: إن هذا غير مسلَّم لمن حقق نظره ولم يتقيد بتقليد ما سمعه ... ؛ وعندي أنه رحمه الله تعالى قد أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذَكر ... ؛ فيبدأ بالأولى، ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والاتباع، حتى استوفى جميع الأقسام الثلاثة ... .
وكذلك أيضاً علل الحديث التي ذكر ووعد أنه يأتي بها؛ قد جاء بها في مواضعها من الأبواب، من اختلافهم في الأسانيد، والإرسال والإسناد، والزيادة والنقص، وذكر تصاحيف المصحِّفين؛ وهذا يدل على استيفاء غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كل ما وعد به.
وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه مَن يفهم هذا الكتاب، فما وجدتُ منصفاً إلا صوّبه وبان له ما ذكرتُ؛ وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب؛ والله الموفق للصواب).
والأمر ظاهر كما قال رحمه الله، ولا حاجة إلى الإطالة بنقل كلامهم وتشعيب الموضوع.
وخلاصة ذلك:
1 - أن الإمام مسلماً أدخل في كتابه الأصول الصحيحة، وهي أصل الكتاب والمعوَّل عليه، وهي العمود الفِقري له، والجمهرة الكبرى من أحاديثه.
2 - وقد يُتبعها – مع أحاديث الباب – بأحاديث في بعض رواتها كلام، إما على سبيل المتابعة لرواية الثقات الذين قبْلهم، وإما على سبيل الشواهد لها، حسبما يقتضيه فقهه.
وهؤلاء هم أهل الطبقة الثانية الذين وصفهم بقوله [في الأصل: بقولهم]: (إنَّ اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم)؛ وهؤلاء هم الذين يقولون فيهم: روى لهم مسلم متابعةً، أو استشهاداً، ويقولون في أحاديثهم: رواه مسلم في المتابعات، أو الشواهد، مع ملاحظة الضوابط التي لا تُنزل كتابه (الصحيح) عن رفعة مقامه بالرواية عن مجروحين تمكّن فيهم الجرح ولا مسوِّغ لمسلم بالرواية عنهـ[ـم]!.
ومن نافلة القول، بل من فضول الكلام: أن يقول أمثالنا: إن مسلماً إمام، وإنه، وإنه، ثم يذهب ليدلِّل على قوله هذا ومديحه له!.
والحكم العام المجمل على أحاديث رجال هذه الطبقة الثانية: أنها حِسان وقد اعتضدت بما قبلها فصارت صحيحة لغيرها، فزادت جمهرة الأحاديث الصحيحة التي في الكتاب.
3 - قد يذكر مسلم أحاديث على وجهٍ فيه بعضُ الشيء، ثم ينبه إلى ما فيه بلطف وبوضوح، لكن على طريقة مخالفة للطريقة الأولى.
¥